الجمعة، 2 نوفمبر 2018

الشَّبح الذي جاء ليعتذر


    تشاك پولانك
   ترجمة: هشام فهمي

يعيش صديقٌ لي في بيتٍ مسكون. هو بيت أبيض جميل يقع في منطقةٍ ريفيَّة، محاط بالحدائق من كلِّ اتجاه، يتَّصل بي صديقي منه كلَّ بضعة أسابيع في عِزِّ الليل ليقول: «ثمَّة من يصرخ في القبو! سأنزل ومعي مسدَّسي. اطلب الشُّرطة إذا لم أتَّصل بك خلال خمس دقائق!».
الموقف درامي جدًّا، لكنه ينطوي على ذلك النوع من التَّباهي المتنكِّر في شكل شكوى، المعادل الخارق للطبيعة لقول «خاتمي الماسي ثقيل جدًّا على يدي!»، أو «ليتني أستطيع ارتداء هذا البكيني دون أن يشتهيني الجميع!».
يُطلِق صديقي على شبحه اسم ”الليدي“، ويشكو من عدم قُدرته على النوم لأن الليدي ظلَّت حاضرةً طوال الليل، تُحَرِّك الصُّور على الجدران وتعبث بالوقت في الساعات وتدقُّ بلا توقُّف في غُرفة المعيشة، وهو ما يقول عنه إنه رقص. إذا جاء صديقي متأخِّرًا أو متعكِّر المزاج، فالسبب هو الليدي التي لم تنفك تنادي اسمه من خارج نافذة غُرفة النوم طوال الليل، أو تفتح الأنوار وتُغلِقها.
هذا رجل عملي لم يعتقد قَطُّ في وجود الأشباح. لنعتبر أن اسمه پاتريك، وإلى أن انتقل للمعيشة في تلك المزرعة كان پاتريك مثلي تمامًا: متَّزنًا عمليًّا عقلانيًّا.

والآن أعتقدُ أنه مدَّعٍ كبير.

  


لأثبِتُ هذا، طلبتُ منه أن أرعى مزرعته في أثناء قضائه عُطلةً ما. قلتُ له إنني أحتاج إلى العُزلة والهدوء كي أستطيع الكتابة. وعدته بأن أروي النباتات، وذهب هو تاركًا إياي هناك مدَّة أسبوعين. ثم إنني أقمتُ حفلة صغيرة.
هذا الرجل ليس صديقي الوحيد العائش في الأوهام، فهناك صديقة أخرى لي -لنعتبر أن اسمها برندا- تقول إنها ترى المستقبَل. تجلس الصُّحبة لتناوُل العشاء، ثم تُفسِد برندا القصَّة الرائعة التي تحكيها أنت، عندما تُطلِق شهقة عالية فجأةً، وتتراجع في مقعدها وقد غطَّت فمها بيديها واعتلت ملامحها نظرة رُعبٍ خالص. تسألها عما هناك، فتقول: «لا شيء، لا شيء...»، ثم تُغلِق عينيها وتحاول طرد الرؤيا المريعة من عقلها.
وعندما تُصَمِّم أنت على معرفة ما أخافها، ستميل على المائدة والدموع في عينيها، وتُمسِك يدك قائلةً بتوسُّل: «أرجوك، أرجوك ابتعد عن السيَّارات طوال السنوات الست القادمة».
طوال السنوات الست القادمة!
برندا وپاتريك غريبا الأطوار لكنهما صديقاي، وإن كانا راغبَيْن دائمًا في انتباه الغير. «شبحي ضاج جدًّا. أكرهُ استطاعتي رؤية المستقبَل».
هكذا دعوتُ برندا وأصدقاءها ذوي القوى النفسيَّة الخارقة إلى حفلتي الصغيرة، كما دعوتُ عددًا من الأصدقاء التقليديِّين الحمقى الذين لا يعانون من أيِّ مواهب فائقة للحواس. سنشرب النبيذ الأحمر ونُشاهد الوُسطاء الروحانيِّين يتنقَّلون هنا وهناك، يدخلون في غَشية ويتَّصلون بالأرواح، يكتبون رسائل من العالَم الآخَر ويرفعون الموائد، بينما نضحك نحن بأدبٍ من وراء أيدينا.
هكذا ذهب پاتريك في عُطلته، ووصلت دستة من الأشخاص إلى البيت الريفي، وجاءت برندا ومعها امرأتان لا أعرفهما -بوني ومولي- وكلتاهما تشعر بالنشوة بالفعل من فرط طاقة الأشباح التي أحسَّتا بها في المكان. تتوقَّف كلتاهما كلَّ بضع خطوات وتترنَّح محاولةً الإمساك بمقعدٍ أو خلافه كي لا تسقط أرضًا.
حسن، جميع أصدقائي يترنَّحون بالفعل، لكن العقلاء يترنَّحون بسبب النبيذ.
جلسنا جميعًا حول مائدة غُرفة الطعام، وأشعلنا شمعتين في المنتصف، وبدأت الوسيطتان الروحانيَّتان العمل.
التفتَت بوني ومولي إلى صديقتي آينا أولًا (كنتُ قد حكيت لك عنها من قبل, وكيف وافقتُ على تقديمها إلى براد پيت، مقابل أن أساعدها في تجهيز الجثث للتشريح في مشرحة كليَّة الطب حيث تعمل). آينا ألمانيَّة وعقلانيَّة، فِكرتها عن التعبير عن المشاعر هي إشعال سيجارة جديدة. لم تلتقِ هاتان الوسيطتان بآينا من قبل قَطُّ، لكنهما تبادلتا إخبارها بأن هناك روح امرأةٍ تقف إلى جوارها، امرأة اسمها مارجريت تُغدِق على آينا بالزهور الزرقاء. هكذا تُطفئ آينا سيجارتها وتنفجر في البكاء.
كانت أم آينا قد ماتت بالسرطان قبل سنواتٍ عديدة، وكان اسمها مارجريت، وفي كلِّ عامٍ تنثر آينا بذور الزهور الزرقاء على قبرها، لأنها كانت زهور أمها المفضَّلة. دعني أقولُ لك إنني وآينا صديقان منذ عشرين عامًا كاملة، وهذه تفاصيل لم أكن أعرفها أنا نفسي. آينا لا تتكلَّم عن أمها أبدًا، وها هي الآن تبكي وتطلب المزيد من النبيذ الأحمر.
ثم التفتت بوني ومولي إليَّ بعد أن حوَّلتا صديقتي إلى كتلةٍ من الدموع والمخاط. قالتا إن هناك رجلًا قريبًا مني، يقف وراء كتفي بالضبط. قالتا إنه أبي القتيل.
بحقِّ السماء! أبي؟!
حسن، لنكتفي بهذا القدْر من الهراء.
بإمكان أيِّ أحدٍ أن يعرف تفاصيل موت أبي؛ الدائرة الأيقونيَّة الغريبة التي أحاطت بظروف مقتله، وأن أباه -جدِّي- قتل أمه -جدَّتي- وهو في الرابعة من عمره، ثم أخذ يجوب المنزل بحثًا عنه ليقتله بدوره. كانت أولى ذكريات أبي عن الليلة التي اختبأ فيها تحت الفِراش، يسمع أباه يناديه ويرى حذاءه الثقيل يضرب الأرض وفوهة البندقيَّة التي يتصاعد منها الدخان تتدلى إلى جواره. اختبأ أبي وأطلق جدِّي النار على نفسه، ثم قضى أبي حياته في محاولةٍ للهروب من ذكرى هذا المشهد.
قال إخوتي أيضًا إنه قضى حياته محاولًا العثور على أمه بزواجه من امرأةٍ تلو الأخرى، في دائرةٍ لا تنتهي من الطلاق والزواج من جديد. كانت عشرون سنةً قد مضت على طلاقه من أمي، عندما رأى إعلانًا للزواج في جريدة، وبدأ يواعد صاحبة الإعلان دون أن يدري أن لها زوجًا سابقًا عنيفًا. هكذا عاد الاثنان من لقائهما الثالث إلى منزل المرأة، ليجدا في انتظارهما زوجها السابق الذي أرداهما معًا. كان هذا في إبريل 1999.
لقد سبق وأن نُشِرَت هذه التفاصيل كلها في كلِّ مكانٍ حقًّا، وحوكم القاتل بالفعل وحُكِم عليه بالإعدام. مولي وبوني ليستا في حاجةٍ إلى أيِّ مواهبٍ خاصَّة لمعرفة هذا.
لكنهما أصرَّتا. قالتا إن أبي يشعر بالأسف على شيءٍ فعله معي عندما كنتُ في الرابعة من عمري. كان يعرف أنه شيء قاسٍ، لكنه الشيء الوحيد الذي استطاع التفكير فيه كي يُعَلِّمني درسًا. كان شابًّا قليل الخِبرة وقتها، ولم يُدرِك أنه تمادى كثيرًا. أمسكَت مولي وبوني يدَي، وقالتا إنهما رأتاني ولدًا صغيرًا جاثيًا إلى جوار قالبٍ لتقطيع الأخشاب، وكان أبي واقفًا إلى جواري ممسكًا في يده بشيءٍ خشبي.
قالتا: «إنها عصا». ثم: «لا، بلطة».
كان بقيَّة أصدقائي قد لاذوا بالصمت، وقد أخرسهم بكاء آينا.
قالت بوني ومولي: «أنت في الرابعة من عمرك، وتُقَرِّر شيئًا شديد الأهميَّة، شيئًا سوف يُشَكِّل بقيَّة حياتك».
وصفتا أبي وهو يشحذ بلطته، ثم قالتا: «إنه على وشك أن...»، ثم صمتتا، قبل أن تواصلا: «... يقطع إصبعك؟».
ما زالت آينا -البقرة السخيفة- تبكي، وأصبُّ لنفسي كأسًا أخرى من النبيذ وأشربها، ثم أصبُّ أخرى. أقول لبوني ومولي -مرشدتينا إلى عالَم الأرواح- أن تُواصلا. أرسم ابتسامة ساخرة على وجهي، وأقول: «لا، حقًّا، هذا مذهل».
- «أبوك سعيد جدًّا الآن، أسعد مما كان طوال حياته على الأرض».
أوليست هذه هي الحال دائمًا؟ فتات من الراحة للمكلومين. مولي وبوني هاتان لا تختلفان في شيءٍ عن كلِّ من استغلُّوا مشاعر الحزانى عبر التاريخ. في أحسن الأحوال هما حمقاوان مضلَّلتان، في أسوأها وحشان كذَّابان.
ما لم أقله لهما إنني، عندما كنتُ في الرابعة من عمري، وضعتُ حلقة معدنيَّة حول إصبعي، لكنها كانت أضيق من أن أستطيع خلعها، وانتظرتُ حتى تورَّم إصبعي واستحال لونه إلى الأرجواني قبل أن أطلب مساعَدة أبي. لقد قيل لنا دائمًا ألا نضع أيَّ حلقاتٍ مطاطيَّة أو معدنيَّة أو خلافه حول أصابعنا، وإلا ستصاب بالغنغرينة ويتعفَّن الجزء المحتبِس ويسقط. قال أبي إننا يجب أن نقطع الإصبع، وقضى الظهيرة كلها في غسل يدي وشحذ البلطة، ملقيًا عليَّ طوال الوقت محاضراتٍ عن تحمُّل مسؤوليَّة أفعالي. قال إنني يجب أن أكون مستعدًّا لدفع الثمن عندما أرتكبُ خطأً غبيًّا.
وأصغيتُ له طوال الوقت. لم تكن هناك دراما أو دموع أو هلع. قال لي عقلي ذو السنوات الأربع إن أبي يُسدي لي خدمة. سيؤلمني قطْع إصبعي الأرجواني المنتفخ، لكن هذا أفضل من تركه يتعفَّن أسبوعًا بعد أسبوع.
هكذا جثوتُ إلى جوار قالب التقطيع الخشبي، حيث سبقت لي رؤية دجاجاتٍ عديدة تلاقي المصير نفسه، وفردتُ يدي. كنت ممتنًّا جدًّا لمساعَدة أبي، وعزمتُ على ألا ألوم غيري أبدًا على حماقاتي.
لوَّح أبي بالبلطة، وبالطبع لم يهوِ بها على إصبعي، بل دخلنا المنزل وخلعنا الحلقة بواسطة الماء والصابون.
إنها قصَّة كدتُ أنساها، كدتُ أنساها لأني لم أحكها لأحدٍ قَطُّ، ولم أتذكَّرها بترديدها بصوتٍ عالٍ لأيِّ أحد. كنتُ أعرفُ أن أحدًا لن يستوعب الدرس، وكلُّ ما سيراه غيري فيه هو تصرُّف أبي وسيصفه بالوحشيَّة. وحاشا لله أن أحكي لأمي بالذات، إذ كانت لتنفجر في نوبة غضبٍ لا تُطاق. كأول ذكريات أبي عن مقتل أمه على يد أبيه، فإن يوم البلطة هو أول ذكرياتي، ولقد احتفظتُ به سرًّا طوال ستة وثلاثين عامًا، تمامًا كما فعل أبي. والآن تأتي هاتان السخيفتان لتحكيا لي تلك القصَّة في حضور أصدقائي السَّكارى!
كان من المستحيل عليَّ أن أمنحهما الشعور بالرضا عن نفسيهما. وبينما أخذت آينا تبكي، شربتُ أنا المزيد من النبيذ، وابتسمتُ وهززتُ كتفَي قائلًا إنها قصَّة مثيرة حقًّا، لكنها كلام فارغ ليس إلا. بعد دقائق قليلة سقطت إحداهما على الأرض، وطلبت من يُساعدها على الوصول إلى سيَّارتها. هكذا انتهت الحفلة وغادر الجميع، بينما بقيتُ مع آينا لنشرب بقيَّة النبيذ حتى الثُّمالة.
كانت حفلة مخيِّبة للآمال في الحقيقة، خصوصًا مع مشاهَدة أصدقائي يتقبَّلون هذا الهراء.
لم تظهر الليدي ليلتها قَطُّ، لكن پاتريك لن يكفَّ عن الاتِّصال بي شاكيًا من شبحه السخيف، ولن تكفَّ برندا عن الارتجاف والشحوب قبل أن تُدلي بنبوءاتها الحمقاء. أما مولي وبوني فقد حالفهما الحظ حقًّا. إنها خدعة ما.
ولا يُمكنني تفسير حيلة مولي وبوني السحريَّة تلك، لكن هناك الكثير في العالَم مما لا أستطيع تفسيره.
ليلة مقتل أبي، وعلى بُعد مئات الأميال، رأت أمي حُلمًا. قالت إنها رأت أبي يدقُّ بابها ويتوسَّل لها أن تُخفيه، وكان مصابًا بطلقٍ ناري في جانبه (وقد أكَّد الطبيب الشرعي هذا لاحقًا)، وكان أبي يحاول الفرار من رجلٍ يحمل مسدَّسًا. لكن بدلًا من أن تسمح أمي له بالدخول، قالت له إنه لم يجلب إلا العار والألم لأبنائه، ثم أغلقت الباب في وجهه.
في الليلة نفسها حلمت أختي بأنها تمشي في الصحراء التي تربَّينا فيها إلى جوار أبي، وقالت له إنها آسفة على الشَّرخ الذي حدث بينهما ولأنهما لم يتكلَّما منذ فترة. في الحُلم وقفَها أبي وقال إن الماضي لم يعد يهم. قال إنه سعيد جدًّا الآن، وستجد هي السعادة أيضًا.
في تلك الليلة لم أرَ أيَّ أحلام، ولم يأتِ إليَّ أحد يودِّعني.
ثم بعد أسبوع اتَّصل بي رجال الشُّرطة، وقالوا إنهم عثروا على جثةٍ يريدون مني أن أذهب وأتعرَّف على صاحبها.
كم أتمنَّى لو استطعت الاعتقاد في وجود عالمٍ خفي، إذ سيُخَفِّف هذا كثيرًا من ضغوط وآلام العالَم المادي، لكن وجود عالمٍ ذلك سيُبطِل قيمة النقود التي لديَّ في البنك، ومنزلي المريح وعملي الجاد. جميع النِّعَم والنِّقَم في حياتنا ستكون بلا طائل، لأنها لن تكون حينها أكثر من حبكاتٍ في كتابٍ أو فيلم. وجود عالَم خفي لن يجعل من عالَمنا أكثر من وَهم.
حقًّا، إن عالَم الأرواح لا يختلف عن الپيدوفيليا أو النكروفيليا؛ ليست لي خبرة به، ولذلك لن آخذه على محمل الجدِّ أبدًا، وسيظلُّ دعابةً لا أكثر.
ليس هناك شيء اسمه الأشباح...
لكن إذا كان هناك حقًّا، فليأتِ لي أبي إذن ويُخبِرني بنفسه!

هناك تعليقان (2):

مقتطف من ترجمة غير منشورة لـ«سيِّد الخواتم»

چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم» واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي، الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في ا...