الأربعاء، 15 أبريل 2020

خاتمة «سيِّد الخواتم» الأصليَّة التي قرَّر تولكين حذفها

يقول تولكين في أحد رسائله إنه قرَّر حذف هذه الخاتمة من كتاب «عودة الملك»، بعد أن لاقت رفضًا شديدًا (وكراهيةً) ممن أطلعهم عليها قبل نشر الكتاب، وإن شعر بالندم بعد النشر لعدم إضافتها إلى الكتاب، لأنه رأى أن ختامه بالأطفال الهوبيت أعطى عُمقًا عاطفيًّا جديدًا للقصَّة، خصوصًا أننا لم نرهم إلَّا قليلًا للغاية في بداية «رفقة الخاتم».
لاحقًا نشر كريستوفر تولكين صِيغ الخاتمة المختلفة في كتاب «هزيمة ساورون» من سلسلة «تاريخ الأرض الوسطى»، التي تسرد بالتفصيل عمليَّة كتابة أحداث الأرض الوسطى، والمراجعات والتغييرات العديدة التي اعتاد تولكين إجراءها.


التقطَ سام نفسًا عميقًا، وقال قال: «حسن، لقد عدتُ».
وذات مساءٍ في مارس 1436 (أي بعد خمسة عشر عامًا من رحيل فرودو وبيلبو وجاندلف إلى ڤالينور)، كان السيِّد ساموايز جامچي مسترخيًا إلى جوار النار في حُجرة مكتبه وقد التفَّ الأطفال حوله، وهو ما لم يكن غير معتادٍ على الإطلاق، ولو أن المفترَض أن شيئًا كهذا يعدُّ مناسبةً خاصَّةً دومًا.
كان يقرأ بصوتٍ عالٍ (كما هي العادة) من كتابٍ أحمر كبير موضوع على منضدة، وعلى مقعدٍ إلى جواره تجلس إلانور، الطفلة الحسناء ذات البشرة الأفتح والقوام الأنحف من أكثر فتيات الهوبيت، وتقترب الآن من سِنِي المراهقة.
قالت إلانور والضوء الذهبي الناعم يتراقَص على وجوههم: «أخبِرني، أخبِرني عن لورين يا بابا سام. أما زالت زهرتي تنمو هناك؟».
- «لا أرى سببًا يمنع يا إلي. إنني لم أرتحل ثانيةً كما تعلمين، لأن عليَّ العناية بكم أيها الصغار. ما زال كِليبورن قاطنًا هناك بين أشجاره وإلفيِّيه، لكني لم أعد أشتاق إليها كثيرًا الآن وأنتِ هنا لأنظر إليكِ».
- «لكنني لا أريدُ أن أنظر إلى نفسي يا بابا سام. أريدُ أن أنظر إلى أشياء أخرى. أريدُ أن أرى تلَّ آمروث حيث التقى الملك وآروِن، والأشجار الفضِّيَّة، وزهرة النِّفرديل البيضاء الصَّغيرة، وزهرة الإلانور الذهبيَّة في العُشب المخضر دومًا. وأريدُ أن أسمع الإلفيِّين يُغنُّون».
- «قد تسمعينهم يومًا ما يا إلانور. لقد قلتُ الكلام نفسه حين كنتُ في سنِّكِ وبعدها بزمنٍ طويل، ولم يبدُ أن هناك أملًا، إلَّا أنني رأيتهم وسمعتهم».
- «كنتُ أخشى أن يرحلوا جميعًا يا بابا سام، فعندها لن يبقى أحد منهم هنا على الإطلاق، وهكذا تُصبح الأماكن كلها مجرَّد أماكن، و...».
- «وماذا يا إلانورِل؟».
- «وكان الضوء ليخبو».
- «لن يخبو الضوء قريبًا، والآن وقد فكَّرتُ في الأمر، فلا أظنُّ أنه سيخبو تمامًا أبدًا بما أنني حظيتُ بكِ لأتكلَّم معكِ، إذ يبدو لي الآن أن بإمكان الناس تذكُّر ما لم يروه»، وتنهَّد سام مردفًا: «ومع ذلك، لا يُضاهي هذا رؤيته حقًّا مثلما فعلتُ».
قالت إلانور: «كأن تكون في قصَّةٍ حقًّا؟ القصص مختلفة للغاية، حتى عندما تحكي ما حدثَ. ليتني أستطيعُ العودة إلى الأيام الخوالي!».
قال سام: «كثيرًا ما يتمنَّى أمثالنا ذلك. لقد وُلدتِ في نهاية عصرٍ عظيم يا إلانورِل، ولكن رغم أنه انتهى -كما نقول- فالأشياء لا تنتهي بهذه الحدَّة هكذا. الأمر أشبه بغروبٍ شتوي. جميع الإلفيِّين السَّامين تقريبًا رحلوا مع إلروند، لكن ليس الجميع، ومن لم يرحلوا سينتظرون هنا فترةً. والآخَرون الذين ينتمون إلى هنا سيبقون فترةً أطول. ما زالت هناك أشياء يُمكنكِ رؤيتها، وقد ترينها في وقتٍ أقرب مما تأملين».
صمتَت إلانور بعض الوقت قبل أن تتكلَّم ثانيةً قائلةً: «في البداية لم أفهم ما قصدَه كِليبورن حين ودَّع الملك، لكن أظنُّني أفهمُ الآن. كان يعلم أن الليدي آروِن ستبقى، أمَّا جالادريِل فستَترُكه. أظنُّ أن ذلك أحزنَه للغاية، وأحزنَك أنت أيضًا يا بابا سام»، وتحسَّست يدها يده البنِّيَّة، فأطبقَ بها على أصابعها النحيلة، وتابعَت هي: «لأن كنزك رحل أيضًا. إنني مسرورة لأن فرودو صاحب الخاتم رآني، وإن كنتُ أتمنَّى لو أنني أذكر رؤيته».
مقبِّلًا شعرها قال سام: «كان هذا محزنًا يا إلانورِل، كان محزنًا حقًّا، لكنه لم يعُد كذلك. ولِمَ؟ لسببٍ واحد، أن السيِّد فرودو ذهب إلى حيث لا يخبو ضوء الإلفيِّين، ولقد استحقَّ مكافأته. لكنني نلتُ مكافأتي أيضًا، وحظيتُ بالكثير من الكنوز. إنني هوبيت ثري للغاية. كما أن هناك سببًا آخَر سأخبركِ به همسًا، سرًّا لم أُطلع عليه أحدًا من قبل ولا وضعته في الكتاب الأحمر بعدُ. قبل رحيله قال السيِّد فرودو أن وقتي قد يحين. أستطيعُ الانتظار. أظنُّ أن وداعنا لم يكن نهائيًّا. لكنني أستطيعُ الانتظار. هذا القدر تعلَّمته من الإلفيِّين على كلِّ حال. الزمن لا يشغلهم كثيرًا، ولذا أحسبُ أن كِليبورن ما زال سعيدًا بين أشجاره على طريقته الإلفيَّة، فوقته لم يحِن بعدُ، وما زال لم يتعب من هذه الأرض. حين يتعب يُمكنه أن يرحل».
- «وحين تتعب أنت سترحل يا بابا سام، سترحل إلى المرافئ مع الإلفيِّين، وعندها سأذهبُ معك. لن أفارقك كما فارقَت آروِن إلروند».
قال سام مقبِّلًا إياها برقَّة: «ربما، ربما. وربما لا. كثيرون يجدون أنفُسهم في مواجهة خيار لوثيان وآروِن يا إلانورِل، أو شيءٍ أشبه به، وليس من الحكمة الاختيار قبل الأوان. والآن يا غاليتي، أظنُّ أن الوقت قد حانَ للخلود إلى النوم، حتى إذا كنتِ فتاةٍ شهدَت خمسة عشر ربيعًا، كما أن عليَّ أن أتكلَّم مع الأم روز».
نهضَت إلانور ومرَّرت يدها بخفَّةٍ في شعر سام البنِّي المجعَّد الذي بدأ الشَّيب يَخِطه بالفعل، وقالت: «تُصبح على خير يا بابا سام، ولكن...».
- «لا أريدُ تُصبح على خير ولكن».
- «ولكن ألن تُريني إياها؟ هذا ما كنتُ سأقوله».
- «أريكِ ماذا يا عزيزتي؟».
- «رسالة الملك بالطبع. إنها معك منذ أكثر من أسبوع».
اعتدلَ سام في جلسته قائلًا: «بحقِّ السماء! لكم تُكرِّر القصص نفسها! الجزاء من جنس العمل حقًّا. نحن تجسَّسنا على السيِّد فرودو المسكين! والآن يتجسَّس أطفالنا علينا، وإن كنتُ آملُ أنهم لا يقصدون أذًى مثلما لم نقصده. لكن كيف عرفتِ بأمر الرسالة؟».
أجابَت إلانور: «لم تكن هناك حاجة إلى التجسُّس. إذا أردت الاحتفاظ بها سرًّا فأنت لم تتوخَّ الحذر كما ينبغي. لقد وصلَت عن طريق بريد الإقليم الجنوبي مبكِّرًا يوم الأربعاء الماضي، ورأيتك تأخذها. كانت مغلَّفةً بالحرير الأبيض وممهورةً بالأختام السوداء الكبيرة. أيُّ أحدٍ سمعَ حكايات الكتاب كان ليحزر أنها رسالة من الملك. أهي أخبار طيِّبة؟ ألن تُريني إياها يا بابا سام؟».
قال سام: «حسن، ما دمتِ تعرفين الكثير بالفعل فالأفضل أن تعرفي كلَّ شيء. لكن لا مؤامرات. إذا أريتكِ إياها فستنضمِّين إلى جانب البالغين وعليكِ أن تلعبي بالعدل. سأخبرُ الآخَرين لاحقًا. الملك قادم».
صاحَت إلانور: «هنا؟ إلى باج إند؟».
- «لا يا عزيزتي، لكنه قادم إلى الشمال من جديد، وهو ما لم يفعله منذ كنتِ صغيرةً للغاية. لكن منزله جاهز الآن. إنه لن يَدخُل المقاطعة (شاير)، لأنه أمر ألَّا يَدخُل أحد من القوم الكبار هذه الأرض ثانيةً بعد هؤلاء الهمجيِّين (يقصد سارومان وأتباعه)، ولن يُخالف الملك قواعده. لكنه سيركب حتى الجسر، ولقد أرسل دعوةً خاصَّةً جدًّا لكلٍّ منا بالاسم».
ثم ذهبَ سام إلى دُرجٍ وفتحَ قفله وأخرجَ منه ورقة ملفوفة وخلعَ غلافها. كانت الرسالة مكتوبةً في عمودين بأحرُف فضِّيَّة نضيدة على خلفيَّةٍ سوداء، وقد بسطَها سام ووضعَ شمعةً إلى جوارها على المنضدة كي تراها إلانور.
صاحَت إلانور: «يا للروعة!»، ثم إنها أتبعَت: «يُمكنني أن أقرأ اللغة العاديَّة، لكن ماذا يقول الجانب الآخر؟ أظنُّ أنها لغة إلفيَّة، لكنك لم تُعلِّمني منها إلا كلماتٍ قليلة حتى الآن».
- «نعم، إنها مكتوبة بإلفيَّة يستخدمها قوم جوندور العظام. لقد فهمتُ ما تقوله، بما يكفي على الأقل للتأكُّد من أنها تقول الكلام نفسه، مع فرق أنها تُحوِّل أسماءنا إلى أسماء إلفيَّة. اسمكِ واحد على الجانبين يا إلانور لأنه اسم إلفي، لكن فرودو هو إيورهِايل، وروز هي مِريل، ومِري هو جِلير، وپيپين هو كوردوف، وجولديلوكس هي جلورفينيل، وهامفاست هو باراڤورن، ودايزي هي آيرين. والآن تعرفين».
- «رائع! كلُّنا لنا أسماء إلفيَّة الآن. يا لها من نهاية عظيمة لعيد مولدي! لكن ما اسمك أنت يا بابا سام؟ إنك لم تذكره».
أجابَ سام: «إنه غريب نوعًا. إذا كان يجب أن تعرفي، فعلى الجانب الإلفي يقول الملك: السيِّد پِرهِايل الذي يجب أن يُسمَّى پانثِايل، ومعنى هذا ساموايز (النِّصف حكيم) الذي يجب أن يُسمَّى فولوايس (الحكيم الكامل). والآن تعلمين رأي الملك في أبيكِ العجوز».
- «ليس أفضل من رأيي يا بابا سام. لكن الرسالة تقول الثاني من إبريل، بعد أسبوعٍ من اليوم. متى سنتحرَّك؟ علينا أن نستعدَّ. ماذا سنرتدي؟».
قال سام: «عليكِ أن تسألي الأم روز عن هذا. لكننا نستعدُّ منذ فترة، فقد أتانا نبأ الزيارة منذ وقتٍ طويل، ولم نقل شيئًا عنها لمجرَّد ألا يُصيبكم الأرق من فرط الحماسة. عليكم جميعًا أن تبدوا في أبهى صورة. سترتدون ثيابًا جميلةً، وسنركب عربةً».
سألته إلينور: «هل عليَّ أن أنحني مرَّةً أم ثلاثًا؟».
- «مرَّة واحدة تكفي لكلٍّ من الملك والملكة. مع أن الرسالة لا تذكر ذلك لا إلانورِل فأظنُّ أن الملكة ستكون هناك، ولمَّا ترينها يا عزيزتي ستعلمين كيف تبدو السيِّدة الإلفيَّة، مع فرق أن لا واحدة تُعادلها حُسنًا».
بعد أن قبَّلته إلانور وتمنَّت له ليلةً طيِّبةً وغادرَت الحُجرة بدا لسام أن النار خمدَت لدى ذهابها.
كانت النجوم تلتمع في سماءٍ سوداء صافية، إذ إنه اليوم الثاني من النوبة الوضَّاءة الصحوة التي تزور المقاطعة كلَّ عامٍ قُرب نهاية مارس، ويُرحِّب بها الجميع ويُثنون عليها كلَّ عامٍ كأنها مفاجأة الموسم. جميع الأطفال نائمون الآن، والوقت متأخِّر، لكن هنا وهناك ثمَّة أضواء لا تزال تتلألأ في هوبيتون، وفي المنازل المتناثرة في الرِّيف الذي طواه الليل.
وقفَ السيِّد ساموايز خارج الباب ونظرَ شرقًا، وجذبَ السيِّدة روز إليه وطوَّقها بذراعه.
قال: «الخامس والعشرون من مارس! في مثل هذا اليوم منذ سبعة عشر عامًا لم أخال أني سأراكِ ثانيةً أبدًا، لكن أملي لم ينقطِع».
ردَّت: «لم آمل أنا على الإطلاق يا سام، لم آمل حتى ذلك اليوم تحديدًا، وفجأةً أحسستُ بالأمل. كنا قُرب الظهيرة آنذاك، وشعرتُ بسرورٍ بالغ حتى إنني بدأتُ أغنِّي. قالت أمِّي: صمتًا يا فتاة! ثمَّة همجيُّون في الجوار. وقلتُ لها: فليأتوا! قريبًا سينتهي أوانهم. سام عائد... ولقد عدتَ بالفعل».
قال سام: «عدتُ، إلى أحب مكانٍ في العالم كله، إلى حبيبتي روز وإلى حديقتي».
ثم إنهما دخلا وأغلقَ سام الباب، ولكن بينما يفعل هذا سمعَ فجأةً، وبصوتٍ عميق غير مكتوم، تنهيدة البحر وخريره على شواطئ الأرض الوُسطى.

النهاية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقتطف من ترجمة غير منشورة لـ«سيِّد الخواتم»

چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم» واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي، الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في ا...