الخميس، 22 نوفمبر 2018

البلوز وأنا

هيو لوري يكتب عن تجربته الغنائيَّة الأولى
   ترجمة: هشام فهمي



لم أولد في ألاباما في القرن التاسع عشر، ولا بد أنكم تعرفون هذا الآن، ولم أذُق أبدًا ذلك الطبق الذي يُسمُّونه ”البرغل“، أو أؤجر أرضي الزراعية، أو أركب عربة المواشي في قطار. لم تحضر امرأة غجرية مولدي، ولا يوجد كلب من كلاب الجحيم يطاردني... على حدِّ علمي على الأقل. في الحقيقة، دعني أقول الآن إنني رجل إنجليزي أبيض من الطبقة المتوسطة يتطفَّل علنًا على موسيقا وأساطير الجنوب الأمريكي.

وإذا لم يكن هذا سيئًا بما فيه الكفاية، فإنني ممثل أيضًا؛ واحد من هؤلاء الحمقى المدلَّلين الذين لا يستطيعون مجرَّد الذهاب إلى المطار وحدهم دون جليسة أطفال، فلن أندهش إذن إذا وجدت حروفًا من الأبجدية الصينية موشومة على مؤخرتي أو حتى مرفقي، لا فارق.

الأسوأ أنني كسرت قاعدة مهمة في الفن والموسيقا والمسار المهني بشكلٍ عام: الممثلون حريٌّ بهم العمل في التمثيل فقط، والموسيقيون حريٌّ بهم العمل في الموسيقا فقط. هكذا الأمر. إنك لا تشتري السمَك من طبيب الأسنان، أو تطلب نصائح اقتصادية من السبَّاك، فلِمَ تستمع إلى موسيقا مَن يُفترَض أنه ممثل أصلاً؟

الإجابة هي أنه ليست هناك إجابة. إذا كنت تهتم بالأصالة، فيجدر بك أن تبحث عنها في مكانٍ آخر إذن، فليس لديَّ شيء على مقاسك.

ربما من الضروري أن أذكر أنني كنت طفلًا لعينًا. لم أكن ميَّالًا لأي شيء له علاقة بالكُتب، بل قضيتُ الجزء الأكبر من شبابي أدخِّن السجائر وأغش في امتحانات اللغة الفرنسية، وكنت أرتدي حذاءً طويل العنق تتدلى منه جمجمعة وعظمتان عند الكاحل. شعري كان يجلب العار، وبشكلٍ ما نجحت في حيلة أن أكون بدينًا ونحيفًا في الآن نفسه، ولو مررت بي في الشارع في سنوات الظلام تلك فإنني متأكِّد من أنك كنت -على أقل تقدير- لتمشي بخطواتٍ أسرع.

هل تظنني أبالغ؟ غير حقيقي. إنني عندما ألقي نظرة على كرَّاساتي في تلك المرحلة أجدُ مثل كلمات ”شنيع“ و”ميئوس“ تتكرَّر بكثرة، بينما تظهر كلمات ”لا“ و”كلا“ و”أبدًا“ و”حاول مرَّة أخرى“ بكثرةٍ أكبر من أن تحتملها عينة عشوائية من الكرَّاسات.

هكذا لك أن تتصورني وأنا في السادسة من عمري عندما بدأت دروس الپيانو مع مسز هاير. كانت امرأة لطيفة على الأرجح، لكن ذاكرتي الطفولية حوَّلتها إلى ساحرة شريرة لا تنقصها الساديَّة، تخزني بالعصا لأعبر فوق جمرات الدو ري مي الملتهبة. احتملت فترة حوالي ثلاثة شهور زحفًا في كتاب ”الپيانو للمبتدئين“ نحو واحة ”نهر البجع“، وهي ليست أغنية بلوز بالضبط، لكنها أقرب إلى ذلك بكثير من أغاني المهد الفرنسية والرقصات الپولندية السخيفة التي امتلأ بها هذا الكتاب القادم من الجحيم.

وأخيرًا جاء اليوم الذي قلبت فيه مسز هاير الصفحة، وقرأت من خلال نظارتها الأنفية -التي ما زلت أذكرها بعد 45 عامًا- وقد ابتلَّ الشارب فوق شفتها العليا: أغنية روحانية للزنوج، مختصرة بعض الشيء. لا، إن هذا...

وقلبت الصفحة إلى أغنية اسمها ”النمر والفيل“ أو كابوس آخر مشابه، وعندها انتهت علاقتي بتعلُّم الموسيقا بشكلٍ رسمي إلى الأبد.

ثم ذات يوم سمعت أغنية في الراديو، وأعتقد بشدة أنها كانت I Can't Quit You, Baby لويلي ديكسن، وتغيَّرت يومها حياتي تمامًا. تكوَّن بيني وبين مفاتيح الموسيقا ثُقب دودي ودخلتُ بلاد العجائب، ومنذ ذلك الحين وموسيقا البلوز تجعلني أضحك وأبكي وأرقص... لكن اعذرني، لا أستطيع أن أخبرك بجميع الأشياء التي جعلتني البلوز أفعلها حفاظًا على أسرار العائلة.

في قلب هذه المملكة السحريَّة الكبيرة، وفوق تلٍّ مرتفع (ما يوضح لك معرفتي الضئيلة وقتها) كانت مدينة نيو أورلينز، عاصمة البلوز في العالم. في مخيلتي كانت نيو أورلينز متقدة بالموسيقا والرومانسية والبهجة واليأس، واخترقت ألحانها نفسيتي الإنجليزية الخرقاء لتجعلني في أحيانٍ سعيدًا للغاية، وفي أحيانٍ أخرى بالغ الحزن، فلم أكن أعرف ماذا أفعل بنفسي. نيو أورلينز كانت لي بمثابة أرض الميعاد.

طوال السنوات العشر التالية التهمتُ أعمال جميع لاعبي الجيتار التي عثرت عليها، ثم عازفي الپيانو المرموقين، وكل هؤلاء أكثر من أستطيع حصر عُشرهم هنا. أظن أنني فضَّلت الپيانو على الجيتار لأنه يظل ثابتًا في مكانٍ واحد، وهو شيء أحب أن أفعله، بينما يجذب الجيتار القلقين الضجرين، وأنا أحب الجلوس كثيرًا.

أما بالنسبة للمغنِّين، فهناك قائمة ضخمة ليس عليها غير اسمين: راي تشارلز وبسي سميث.

كل هؤلاء الفنانين العظماء عاشوا موسيقاهم وهُم يلعبونها. كلهم يعرف ثمن رغيف الخبز، وأكثرهم جاءت عليه أوقات لم يملك فيها هذا الثمن. إن لديهم أوراق اعتماد هي تجربتهم في الحياة، وهذا شيء أحترمه مثلي مثل غيري، وربما أكثر.

لكنني في الوقت ذاته لا أستطيع رؤية هذه الموسيقا وهي حبيسة في علبة زجاجية تعلوها لافتة تقول: ”لا يقربها إلى السُّود الكهول“، فهذا هو الطريق إلى القبر، سواء بالنسبة للبلوز أو أي شيء آخر. لم يكن شيكسپير يعرض مسرحياته إلا في مسرح جلوب، وموسيقا باخ لا يلعبها إلا ألمان يرتدون سراويل ضيقة. هذا هو الفورمالدهايد بعينه.

هذه إذن هي أوراق اعتمادي، بطاقة تعريفي المهترئة التي أتمنى أن تقودني إلى النجاح. إنني أحب هذه الموسيقا على أكثر نحوٍ أصيل أعرفه، وأتمنى أن تحبونها أيضًا. وإذا وجدتم فيها واحدًا على ألف من المتعة التي أجدها فيها، فإننا قد قطعنا شوطًا طويلًا بالفعل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقتطف من ترجمة غير منشورة لـ«سيِّد الخواتم»

چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم» واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي، الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في ا...