الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»

مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»
الكتاب الخامس من «أغنيَّة الجليد والنار»
ترجمة هشام فهمي
نهاية العام، عن دار التنوير


مرَّا داخل المدينة بمقار رابطات عُمَّال وأسواق وحمَّامات، وبنوافير تَنثُر مياهها وتتغنَّى في منتصَف ميادين واسعة، حيث يجلس النَّاس إلى طاولاتٍ حجريَّة يُحرِّكون قِطع السايڤاس ويشربون النَّبيذ من كؤوسٍ زُجاجيَّة طويلة رفيعة، فيما يُشعِل العبيد القناديل المنمَّقة لطرد الظَّلام. بطول الطَّريق ينمو النَّخيل وشجر الأَرز، وعند كلِّ رُكنٍ تقف الأنصاب التَّذكاريَّة، وإن لاحظَ القزم أن كثيرًا من التَّماثيل بلا رؤوس، ولكن حتى في غياب رؤوسها لا تفتقر إلى المهابة في أرجوان الغسق.
إذ مضى الجواد الحربي جنوبًا بمحاذاة النَّهر بدأت المحال تصير أصغر حجمًا وأكثر تواضُعًا، وأصبحَت الأشجار بطول الشَّارع صفًّا من الجذوع المبتورة، وأفسحَت حجارة الرَّصف الطَّريق للعُشب الشَّيطاني تحت حوافر حصانهما، ثم أفسحَ العُشب الشَّيطاني الطَّريق بدوره لطميٍ طريٍّ مبتل له لون فضلات الرُّضَّع. صرَّت الجسور الصَّغيرة الممتدَّة فوق النُّهيرات التي تصبُّ في (الروين) تحت ثقلهم، وحيث كان حصن يطلُّ على النَّهر في الماضي لم يتبقَّ الآن إلَّا بوَّابة محطَّمة مفغورة كفم شيخٍ يخلو من الأسنان، ولمحَ تيريون بعض الماعز تَنظُر من الشُّرفات.
(ڤولانتيس) العجوز، ابنة (ڤاليريا) البِكر. (ڤولانتيس) الأبيَّة، ملكة (الروين) وسيِّدة (بحر الصَّيف)، موطن السَّادة النُّبلاء والسيِّدات الجميلات، أصحاب الدِّماء الضَّاربة في القِدم. ولا عليك بقطعان الأطفال العُراة الذين يجوبون الأزقَّة صارخين بأصواتٍ حادَّة تَثقُب الآذان، أو بمُبارزي البراڤو الواقفين على أبواب الخمَّارات مداعبين مقابض سيوفهم، أو بالعبيد بظهورهم المحنيَّة ووجوههم الموشومة المهرعين في كلِّ مكانٍ كالصَّراصير. (ڤولانتيس) القويَّة، أعظم المُدن الحُرَّة التِّسع وأكثرها عمورًا بالسُّكَّان. على أن الحروب العتيقة أنقصَت أعدادًا كبيرةً من أهل المدينة، وبدأت قطاعات واسعة منها تغوص في الطَّمي الذي كانت تقف عليه في ما سبقَ. (ڤولانتيس) الجميلة، مدينة النَّوافير والأزهار. لكن نِصف النَّوافير جفَّ ونِصف أحواض السِّباحة تصدَّع وملأَته المياه الآسنة، وزحفَت فروع النَّباتات المعترشة المزهرة من كلِّ شَقٍّ في سورٍ أو رصيف، وغرسَت الأشجار الشَّابَّة جذورها في جُدران المحال المهجورة والمعابد المكشوفة.
ثم إن هناك الرَّائحة الفوَّاحة في الهواء السَّاخن الرَّطب، قويَّة نفَّاذة متغلغلة. فيها أسماك وزهور، والقليل من روث الأفيال أيضًا. شيء عطِر وشيء أرضي وشيء ميت متعفِّن. أعلنَ تيريون: «رائحة هذه المدينة كالعاهرة العجوز، كبغي مترهِّلة أغرقَت عورتها بالعطر لتقضي على الرَّائحة النَّتنة بين ساقيها. لستُ أشكو. مع العاهرات، الشَّابَّات رائحتهن أفضل، لكن العجائز يعرفن حيلًا أكثر».
- «تعرف عن هذا أكثر مني».
- «آه، بالطَّبع. والماخور الذي التقينا فيه، هل حسبته سِپتًا؟ التي كانت تتلوَّى في حِجرك أختك العذراء؟».
دفعَه قوله إلى العبوس، وقال: «احفظ لسانك هذا ما لم تكن تُريدني أن أربطه لك كالعُقدة».
ابتلعَ تيريون ردَّه. ما زالَت شفته متورِّمةً منذ آخِر مرَّةٍ بالغَ فيها في استفزاز الفارس. اليدان الصُّلبتان وغياب حسِّ الفُكاهة مزيج لا يأتي منه خير. تعلَّم هذا على الطَّريق من (سلهوريس). ذهبَت أفكاره إلى حذائه والفطر المخبَّأ في الإصبع الكبير. لم يُفتِّشه آسِره بالدِّقَّة التي يحسبها. هذا المهرب متاح دومًا. على الأقل لن تنالني سرسي حيًّا.
مع توغُّلهما جنوبًا بدأت علامات الازدهار تظهر من جديد. قلَّت المباني المهجورة، واختفى الأطفال العُراة، وارتدى مُبارزو البراڤو الواقفون في المداخل ثيابًا أكثر أناقةً، وبدا بعض الخانات التي مرَّا بها كأمكنةٍ يستطيع المرء أن ينام فيها بلا خوفٍ من الذَّبح. على طريق النَّهر تتدلَّى القناديل من قوائم حديديَّة وتتأرجَح في مهبِّ الرِّيح، والشَّوارع أعرض والبنايات أفخم، بعضها متوَّج بقِبابٍ عظيمة من الزُّجاج الملوَّن، وفي الغسق ومع إشعال النَّار أسفلها تتوهَّج القِباب بالأزرق والأحمر والأخضر والأرجواني.
وعلى الرغم من هذا أصابَ شيء ما في الهواء تيريون بالتَّوتُّر. يعلم أن غرب (الروين) تكتظُّ أرصفة (ڤولانتيس) بالبحَّارة والرَّقيق والتُّجَّار الذين تخدمهم الخمَّارات والخانات والمواخير، لكن شرق النَّهر لا يُرى الأغراب القادمون من وراء البحار إلَّا نادرًا. ليس مرغوبًا في وجودنا هنا.
أول مرَّةٍ مرَّا بفيلٍ لم يستطِع تيريون أن يمنع نفسه من الحملقة. في صِغره كان في معرض الوحوش في (لانسپورت) فيل، لكنه ماتَ وهو في السَّابعة... وهذا العملاق الرَّمادي الجسيم يبدو أكبر منه مرَّتين. بعد قليلٍ وجدا نفسيهما وراء فيلٍ آخَر أصغر حجمًا، أبيض كالعظام القديمة ويجرُّ عربةً منمَّقة الزُّخرف. سألَ تيريون آسِره: «هل تظلُّ عربة الثِّيران عربة ثيران بلا ثيران؟»، فلمَّا لم يجد استجابةً لدُعابته عادَ يلوذ بالصَّمت متأمِّلًا كفل الفيل القزم الأبيض الذي يترجرَج أمامهما.
تعجُّ (ڤولانتيس) بالأفيال القزمة البيضاء، ومع دنوِّهما من (السُّور الأسود) والقطاعات المزدحمة قُرب (الجسر الطَّويل) رأيا دستةً منها. كما أن الأفيال الرَّماديَّة الكبيرة ليست نادرةً، بل موجودة هنا وهناك وعلى ظهورها الضَّخمة الهوادج. في ضوء المساء الخافت تَخرُج عربات الرَّوث التي يجرُّها عبيد نِصف عُراة مهمَّتهم أن يجرفوا الأكوام السَّاخنة التي تُخلِّفها الأفيال صغيرها وكبيرها، ولأن أسراب الذُّباب تتبع العربات فوجوه هؤلاء العبيد موشومة بالذُّباب لتمييز عملهم. حِرفة تَصلُح لأختي. كم ستبدو جميلةً بجاروفٍ في يدها وذُباباتٍ موشومة على وجنتيها الغضَّتين المتورِّدتين.
عندئذٍ كانت حركتهما قد تباطأت كثيرًا. تَخنُق طريق النَّهر حركة المرور التي تتدفَّق كلُّها تقريبًا جنوبًا، وقد مضى معها الفارس كجذع شجرةٍ في تيَّار الماء. رمقَ تيريون الجموع المارَّة ملاحظًا أن تسعةً من كلِّ عشرة على وجوههم علامات الرِّق. «عبيد كثيرون للغاية... أين يذهبون؟».
- «الرُّهبان الحُمر يُشعِلون نيرانهم اللَّيليَّة عند الغروب. سيتكلَّم الرَّاهب الأعلى. كنتُ لأتفاداه إن استطعت، ولكن لبلوغ (الجسر الطَّويل) علينا المرور بالمعبد الأحمر».
بعد ثلاث بنايات انفتحَ الشَّارع أمامهما على ساحةٍ ضخمة تُضيئها المشاعل، وها هو ذا. ليُنقِذني (السَّبعة)، لا بُدَّ أنه أكبر ثلاث مرَّات من (سِپت بيلور الكبير). يرتفع (معبد إله الضِّياء) كـ(تل إجون العالي)، صرح من الأعمدة والسَّلالم والدِّعامات والجسور والقِباب والبروج، جميعها متداخل متشابك كأنها منحوتة من صخرةٍ عملاقة واحدة. على جُدران المعبد تلتقي مئة درجةٍ من الأحمر والأصفر والذَّهبي والبُرتقالي وتمتزج، يذوب بعضها في بعضٍ كالسَّحاب عند غروب الشَّمس، وتلتوي الأبراج الرَّفيعة إلى أعلى كأنها لهب مجمَّد يمتدُّ إلى السَّماء. النَّار وقد استحالَت إلى حجر. على جانبَي درجات المعبد تشتعل نيران ليليَّة ضخمة، وبينها بدأ الرَّاهب الأعلى يتكلَّم.
بنيرو. وقفَ الرَّاهب على قمَّة عمودٍ حجري أحمر يربطه جسر رفيع بشُرفةٍ شامخة يقف فيها الرُّهبان والمُعاونون الأدنى مرتبةً، وقد ارتدى المُعاونون الأصفر الباهت والبُرتقالي الصَّارخ، والرُّهبان والرَّاهبات الأحمر.
تكاد السَّاحة أمامهما تكون مصمتةً من فرط الزِّحام. كان كثيرون جدًّا من المتعبِّدين يُثبِّتون قُصاصاتٍ من القُماش الأحمر إلى أكمامهم أو يربطونها حول جباههم، وانصرفَت الأعيُن كلُّها إلى الرَّاهب باستثناء أعيُنهما. دمدمَ الفارس وحصانه يتقدَّم بصعوبةٍ عبر الأعداد الغفيرة: «أفسِحوا الطَّريق، دعونا نمرُّ»، فأذعنَ الڤولانتينيُّون باستياءٍ تصحبه الهمهمات والنَّظرات الغاضبة.
تردَّد صوت بنيرو العالي بوضوح. الرَّجل طويل ناحل، له وجه مسحوب وبشرة بيضاء كالحليب، وعلى وجنتيه وذقنه ورأسه الأصلع تصنع وشوم اللَّهب قناعًا أحمر زاهيًا يُحيط بعينيه ويلتفُّ إلى أسفل محيطًا بشفتيه الرَّفيعتين للغاية. سألَ تيريون: «أهذا وشم عبوديَّة؟».
أومأَ الفارس برأسه مجيبًا: «المعبد الأحمر يشتريهم وهُم أطفال ويجعل منهم رُهبانًا أو بائعي هوى أو مُحاربين. انظُر هناك»، وأشارَ إلى الدَّرجات حيث يقف صفٌّ من الرِّجال في دروعٍ منمَّقة ومعاطف بُرتقاليَّة أمام باب المعبد، يقبضون على حِرابٍ تتَّخذ رؤوسها شكل اللَّهب المتلوِّي. «اليد النَّاريَّة، جُند إله الضِّياء المقدَّسون وحُماة المعبد».
فُرسان النَّار. «وكم إصبعًا في هذه اليد يا تُرى؟».
- «ألف، لا أكثر ولا أقل. كلَّما انطفأَ لهب أحدهم أُشعِلَ لهب جديد في مكانه».
أشارَ بنيرو بإصبعه إلى القمر بحدَّةٍ ثم كوَّر قبضته ثم بسطَ يديه عن آخِرهما، وحين تعاظمَت نبرته وثبَ اللَّهب من أصابعه بصوتٍ جيَّاش مباغت جعلَ الجمهور يشهق، وبعدها بدأ الرَّاهب يَكتُب حروفًا ناريَّةً في الهواء. أبجديَّة ڤاليريَّة. تعرَّف تيريون كلمتين من عشرة ربما، إحداهما «الهلاك» والثَّانية «الظَّلام».
تفجَّر الصِّياح من المحتشدين، وانتحبَت النِّساء ولوَّح الرِّجال بقبضاتهم. يُساوِرني شعور سيِّئ. ذكَّر المشهد القزم بيوم أبحرَت مارسلا إلى (دورن) والشَّغب الذي اندلعَ وهُم يشقُّون طريق العودة إلى (القلعة الحمراء).
تذكَّر تيريون كلام هالدون النِّصف مِايستر عن استغلال الرَّاهب الأحمر، لكن الآن وقد رأى وسمعَ الرَّجل بنفسه وجدَها فكرةً في غاية السُّوء. بعض الحُلفاء أخطر من الأصدقاء.
كان الرَّاهب يُشير إلى (السُّور الأسود) وراء المعبد ويُلوِّح بيده نحو شُرفاته حيث تقف مجموعة صغيرة من الحُرَّاس المسلَّحين تُشاهِد، فسألَ تيريون الفارس: «ماذا يقول؟».
- «إن دنيرس في خطر، إن عين الظَّلام وقعَت عليها وأعوان اللَّيل يُخطِّطون لدمارها، يُصلِّون لآلهتهم الزَّائفة في معابد الخديعة... يتآمَرون على الخيانة مع الأجانب الكافرين...».

(((جزء محذوف من المقتطف يضمُّ حرقًا لحدث مهم)))

عندئذٍ كان الفارس قد شقَّ طريقهما قسرًا عبر أغلب الزِّحام في طرف السَّاحة متجاهلًا اللَّعنات التي انصبَّت عليهما. وقفَ أمامهما رجل، لكن آسِره أمسكَ مقبض سيفه وسحبَه مظهرًا قدمًا فقط من الفولاذ المجرَّد، ليختفي الرَّجل في لحظةٍ وينفتح زُقاق أمامهما فجأةً. همزَ الفارس حصانه ليتحرَّك خببًا وتركا الجماهير وراءهما، وللحظاتٍ سمعَ تيريون صوت بنيرو يخفت شيئًا فشيئًا من ورائهما والهدير الذي تُفجِّره كلماته كالرَّعد.

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2019

مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»

مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»
الكتاب الخامس من مقتطف من «أغنيَّة الجليد والنار»
ترجمة هشام فهمي
نهاية العام، عن دار التنوير


- «ستارك كان خائنًا لاقى نهاية خائن».
قال سلمي: «جلالة الملكة، إدارد ستارك لعبَ دورًا في سقوط أبيكِ، لكنه لم يكنَّ لكِ أيَّ ضغائن. عندما أبلغَنا الخصيُّ ڤارس بكونكِ حاملًا أرادَ روبرت قتلكِ، لكن اللورد ستارك عارضَه، وبدلًا من تأييده اغتيال الأطفال قال لروبرت أن يجد لنفسه يدًا آخَر».
- «هل نسيت الأميرة ريينس والأمير إجون؟».
- «إطلاقًا. كان هذا عمل لانستر يا صاحِبة الجلالة».
- «لانستر أو ستارك، ما الفرق؟ اعتادَ ڤسيرس أن يُسمِّيهم كلاب الغاصِب. إذا هاجمَ قطيع من كلاب الصَّيد طفلًا فهل يهمُّ أيُّها يُمزَّق عُنقه؟ كلُّ كلاب القطيع مذنبة. الذَّنب...». احتبسَت الكلمة في حَلقها، وفكَّرت: هازيا، وفجأةً سمعَت نفسها تقول بصوتٍ خفيض كهمسة طفلة: «يجب أن أرى الجُبَّ. خُذني إلى هناك أيها الفارس».
لاحَت لمحة من الاعتراض على وجه العجوز، ولكن ليس هو من يُراجِع مليكته، وهكذا قال: «كما تأمرين».
سلالم الخدم أسرع طريقٍ إلى أسفل. ليست فخمةً، لكنها منحدرة ومستقيمة وضيِّقة ومحجوبة داخل الجُدران. جلبَ السير باريستان مصباحًا يُضيء الطَّريق لئلَّا تَسقُط، ونزلا والقرميد المطلي بعشرين لونًا يُحيط بهما من كثب، قبل أن يستحيل إلى الرَّمادي والأسود عندما يتجاوَزه الضَّوء. ثلاث مرَّاتٍ مرَّا بحَرسٍ من المُطهَّرين الواقفين بثباتٍ يجعلهم كأنهم منحوتون من حجر، والصوَّت الوحيد وقع أقدامهما الخافت على الدَّرجات.
في مستواه الأرضي هرم (ميرين) الأكبر مكان صامت مليء بالغُبار والظِّلال، جُدرانه الخارجيَّة تَبلُغ الثَّلاثين قدمًا سُمكًا، وداخلها تتردَّد أصداء الأصوات على القناطر عديدة الألوان وفي الاسطبلات ومَرابط الخيول والمخازن. مرَّا من تحت ثلاث قناطر هائلة وقطعا ممرًّا منحدرًا مضاءً بالمشاعل إلى الأقبية أسفل الهرم، وتجاوَزا خزَّانات الماء والزَّنازين وحُجرات التَّعذيب التي قاسى فيها العبيد الجَلد والسَّلخ والحرق بالمكاوي الحامية، وأخيرًا بلغا بابًا ضخمًا مصراعاه من الحديد ومفصلاته صدئة يَحرُسه المُطهَّرون.
على إثر أمرها أخرجَ أحدهم مفتاحًا حديديًّا. صرخَت مفصلات الباب إذ انفتحَ، وخطَت دنيرس تارجاريَن إلى قلب الظَّلام السَّاخن وتوقَّفت على حافة جُبٍّ عميق، وعلى بُعد أربعين قدمًا بالأسفل رفعَ تنِّيناها رأسيهما وأربع أعيُنٍ متَّقدة تتخلَّل نارهما الظِّلال، اثنتين من الذَّهب المصهور واثنتين من البرونز.
أمسكَها السير باريستان من ذراعها قائلًا: «لا تقتربي أكثر».
- «أتظنُّ أنهما قد يُؤذِيانني؟».
- «لا أدري يا جلالة الملكة، لكنني أوثرُ ألَّا أخاطر بكِ لأعرف الإجابة».
حين زأرَ ريجال أحالَ رُمح من النَّار الصَّفراء الظَّلام إلى نهارٍ لنِصف لحظة، ولعقَت ألسنة اللَّهب الجُدران وشعرَت داني بحرارتها على وجهها كأنها أتون يلفح. عبر الجُبِّ انبسطَ جناحا ڤسيريون محرِّكيْن الهواء السَّاكن، وحاولَ أن يطير إليها لكن السِّلسلة انشدَّت عن آخِرها إذ ارتفعَ وجعلَته يهوي على بطنه. تُقيِّد قدمَي التنِّين حلقات كبيرة بحجم قبضة رجلٍ إلى الأرض، والطَّوق الحديدي المحيط بعُنقه مثبَّت إلى الحائط ورائه. ريجال أيضًا مقيَّد بسلاسل شبيهة، وفي ضوء مصباح سلمي تلتمع حراشفه كاليَشب. من بين أسنانه يتصاعَد الدُّخان، وعند قدميه على الأرض عظام مبعثرة، مكسَّرة ومهشَّمة ومتفحِّمة، والهواء ساخن لدرجةٍ مزعجة وعابق برائحة الكبريت واللَّحم المحترق.
قالت داني: «حجمهما أكبر»، فتردَّد صدى صوتها على الحوائط الحجريَّة المسفوعة، وشعرَت بقطرةٍ من العَرق تسيل من على جبينها وتَسقُط على ثديها. «أصحيحٌ أن التَّنانين لا تكفُّ عن النُّمو أبدًا؟».
- «إذا تمتَّعت بالطَّعام الكافي ومساحةٍ للنُّمو، لكن وهي مقيَّدة هنا...».
في السَّابق استخدمَ الأسياد العظام الجُبَّ كسجن، مساحته واسعة تكفي لاحتواء خمسمئة سجين... وتكفي تنِّينيْن وتزيد. لكن إلى متى؟ ماذا سيَحدُث عندما يَكبُران على الجُب؟ هل سينقلب أحدهما على الآخَر بناره ومخالبه؟ هل سيَضعُفان ويَهزُلان وتَذبُل جوانبهما وتنكمش أجنحتهما؟ هل ستنطفئ نيرانهما قبل النِّهاية؟
 ما الأُم التي تَترُك طفليها يتعفَّنان في الظَّلام؟
قالت داني لنفسها: إذا نظرتُ إلى الوراء فأنا هالكة... لكن كيف يُمكنها ألَّا تَنظُر وراءها؟ كان عليَّ أن أتوقَّع هذا. هل كنتُ عمياء أم أغلقتُ عينَي بإرادتي كي لا أرى ثَمن القوَّة؟
حكى لها ڤسيرس الحكايات كلَّها في طفولتها، فلكم أحبَّ الكلام عن التَّنانين، وهكذا علمَت كيف سقطَت (هارنهال)، وعلمَت بحقل النِّيران ورقصة التَّنانين، وأن أحد أسلافها -إجون الثَّالث- رأى تنِّين خاله يلتهم أمَّه حيَّةً، كما أن هناك أغاني لا تُحصى عن قُرى وممالك عاشَت في رُعبٍ من التَّنانين إلى أن جاءَ قاتِل تنانين شُجاع يُنقِذها. في (أستاپور) ذابَت عينا النخَّاس، وفي الطَّريق إلى (يونڬاي)، حينما ألقى داريو رأسَي سالور الأصلع وپرندال نا غِزن عند قدميها، صنعَ أطفالها منهما وليمةً. لا تخشى التَّنانين البَشر، والتنِّين الكبير كفايةً لالتهام خروفٍ يستطيع أن يلتهم طفلةً بالبساطة ذاتها.
كان اسمها هازيا، وكانت في الرَّابعة. ما لم يكن أبوها قد كذبَ. ربما كذبَ. لا أحدَ إلَّاه رأى التنِّين، ودليله كان بعض العظام المحروقة، لكن العظام المحروقة لا تُثبِت شيئًا. ربما قتلَ الصَّغيرة بنفسه ثم أحرقَ جثَّتها. لن يكون أول أبٍ يتخلَّص من ابنةٍ لا يُريدها كما زعمَ الرَّأس الحليق. ربما قتلَها أبناء الهارپي وجعلوا الأمر يبدو كأن تنِّينًا فعلَها لجعل المدينة تكرهني. تُريد داني أن تُصدِّق ذلك... لكن إن كانت تلك الحقيقة فلِمَ انتظرَ أبو هازيا حتى خلَت القاعة تقريبًا ليتقدَّم؟ لو كان هدفه أن يُلهِب مشاعر الميرينيزيِّين ضدها لحكى حكايته والقاعة ملأى بالآذان الصَّاغية.
حثَّها الرَّأس الحليق على قتل الرَّجل، وقال: «أو اقطعي لسانه على الأقل. من شأن كذبة هذا الرَّجل أن تُدمِّرنا جميعًا يا صاحِبة السُّمو»، إلَّا أن داني اختارَت أن تدفع ثَمن الدَّم بدلًا من ذلك. لم يكن بإمكان أحدٍ أن يُخبِرها بثَمن ابنة، فقدَّرته بمئة ضِعف ثَمن حَمل، وقالت للأب: «كنتُ لأعيد هازيا إليك لو استطعتُ، لكن بعض الأشياء لا تقدر عليه الملكات أنفُسهن. ستُدفَن عظامها في (معبد ذوات النِّعم)، وستشتعل مئة شمعة ليل نهار في ذكراها. عُد إليَّ كلَّ سنةٍ في يوم ميلادها ولن يعوز أطفالك الآخَرون شيء... لكن يجب ألَّا تَخرُج هذه الحكاية من فمك ثانيةً أبدًا».
قال الأب الثَّكلان: «سيسأل النَّاس، سيسألونني أين هازيا وكيف ماتَت».
ردَّ رزناك مو رزناك بإصرار: «ماتَت بلدغة ثُعبان، اختطفَها ذئب مفترس، أخذَها مرض مفاجئ. قُل لهم ما تشاء، لكن لا تَذكُر التَّنانين».
خدشَت مخالب ڤسيريون الأحجار وصلصلَت السِّلسلة الضَّخمة إذ حاولَ الطَّيران إليها ثانيةً، ولمَّا فشلَ أطلقَ زئيرًا ولوى رأسه إلى الوراء قدر استطاعته وبصقَ اللَّهب الذَّهبي على الحائط ورائه. كم من الوقت قبل أن تستعرَّ ناره بما يكفي لفلق الحجر وإذابة الحديد؟
منذ وقتٍ ليس ببعيد كان يركب على كتفها بذيلٍ ملفوف حول ذراعها، منذ وقتٍ ليس ببعيد كانت تُطعِمه لُقيمات اللَّحم المتفحِّم من يدها. هو أول من قيَّدته السَّلاسل، عندما قادَته دنيرس إلى الجُبِّ بنفسها وحبسَته بالدَّاخل مع عدَّة ثيران، وبعد أن التهمَها أصابَه النُّعاس، وبينما غابَ في النَّوم قيَّدوه.
غير أن ريجال كان أصعب. ربما سمعَ ثورة أخيه في غياهب الجُبِّ على الرغم من الجُدران الحجر والقرميد الفاصلة بينهما. في النِّهاية غطُّوه بشبكةٍ من السَّلاسل الحديد الثَّقيلة وهو مستلقٍ في شمس شُرفتها، وقد قاومَ بشراسةٍ بالغة حتى إنهم استغرَقوا ثلاثة أيامٍ كاملة للنُّزول به على سلالم الخدم وهو يتلوَّى ويعضُّ الهواء، وأسفرَ الصِّراع عن احتراق ستَّة رجال.
ودروجون...
الظِّل المجنَّح كما دعاه الأب الثَّكلان. إنه أكبر الثَّلاثة حجمًا وأشرسهم وأضراهم، حراشفه سوداء كالصَّريم وعيناه حُفرتان من نار.
يصطاد دروجون بعيدًا، لكن حين يشبع يحبُّ الاستلقاء في الشَّمس على قمَّة (الهرم الأكبر) حيث كانت هارپي (ميرين) تقف من قبل. ثلاث مرَّاتٍ حاوَلوا أخذه هناك، وثلاث مرَّاتٍ أخفَقوا. أربعون من أشجع رجالها خاطَروا بأرواحهم في محاولة القبض عليه، وأصيبوا كلُّهم تقريبًا بحروقٍ وماتَ منهم أربعة. آخِر مرَّةٍ رأت دروجون كانت عند الغروب يوم المحاولة الثَّالثة، وكان التنِّين الأسود محلِّقًا شمالًا عبر (السڬاهازاذان) نحو عُشب (بحر الدوثراكي) الطَّويل، ومنذ ذلك الحين لم يرجع.
وقالت دنيرس في أعماقها: أُم التَّنانين. أُم الوحوش. ماذا أطلقتُ على العالم؟ ملكة أنا، لكن عرشي من عظمٍ محروق ومن تحته رمال متحرِّكة. في غياب التَّنانين ما أملها في السَّيطرة على (ميرين)، ناهيها باسترداد (وستروس)؟ أنا دم التنِّين. إذا كانوا وحوشًا، فأنا أيضًا وحش.

الثلاثاء، 20 أغسطس 2019

مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»

الكتاب الخامس من «أغنية الجليد والنار»
نهاية العام، عن دار التنوير
ترجمة: هشام فهمي


مرَّ نِصف الصَّباح قبل أن يظهر اللورد چانوس ملبِّيًا الأمر. كان چون يُنظِّف سيفه (المخلب الطَّويل)، وهو العمل الذي عادةً ما يُكلَّف به وكيل أو مُرافق، لكن اللورد إدارد علَّم أبناءه العناية بأسلحتهم بأنفُسهم. حين وصلَ كِجز وإد الكئيب مع سلينت شكرَهما چون ودعا اللورد چانوس إلى الجلوس.
وقد جلسَ، ولكن بفظاظة، عاقدًا ذراعيه على صدره وعابسًا ومتجاهلًا الفولاذ المجرَّد في يد قائده. مرَّر چون قطعة القُماش المزيَّتة على نصل سيفه النَّغل[1] مشاهدًا ضوء الصَّباح يتلاعَب على التَّموُّجات في قلب الفولاذ، ومفكِّرًا في السُّهولة التي يُمكن أن يشقَّ بها النَّصل جِلد وشحم وأوتار سلينت ليفصل رأسه القبيح عن بدنه. عندما ينخرط الرَّجل في حَرس اللَّيل تُغفَر جرائمه كلُّها ويتخلَّى عن ولاءاته جميعها، إلَّا أن چون يجد التَّفكير في چانوس سلينت باعتباره أخًا عسيرًا. إن بيننا دم. هذا الرَّجل ساعدَ على قتل أبي وبذلَ قصارى جهده لقتلي أيضًا.
دسَّ چون سيفه في غِمده قائلًا: «لورد چانوس، إنني أولِّيك القيادة في (الحارس الرَّمادي)».
باغتَ قوله سلينت الذي ردَّ: «(الحارس الرَّمادي)... (الحارس الرَّمادي) هو المكان الذي تسلَّقت (الجِدار) عنده مع أصدقائك الهَمج...».
- «نعم. لا أنكرُ أن القلعة في حالةٍ مؤسفة، لكنك ستُجدِّدها وتُرمِّمها قدر استطاعتك. ابدأ بقطع أشجار الغابة، وخُذ الحجارة من المباني التي سقطَت لإصلاح تلك التي لا تزال قائمةً». كان ليُضيف: سيكون العمل شاقًّا للغاية. ستنام على الحجر، أكثر إرهاقًا من أن تشكو أو تتآمَر، وسرعان ما ستنسى معنى الدِّفء، ولكن قد تتذكَّر معنى أن تكون رجلًا. «سيكون معك ثلاثون رجلًا، عشرة من هنا وعشرة من (بُرج الظِّلال) وعشرة أعارَنا إياهم الملك ستانيس».
اصطبغَ وجه سلينت بلون البرقوق المجفَّف، وبدأ لُغده اللَّحيم يرتجف وهو يقول: «أتحسبني لا أرى ما تفعله؟ چانوس سلينت ليس بالرَّجل الذي ينخدِع بسهولة. لقد كُلِّفتُ بالدِّفاع عن (كينجز لاندنج) وأنت لا تزال تبول في قِماطك. احتفظ بأطلالك أيها النَّغل».
إنني أعطيك فُرصةً يا سيِّدي، وهذا أكثر مما أعطيت أبي. «أسأت فهمي يا سيِّدي. هذا أمر لا طلب. المسافة إلى (الحارس الرَّمادي) أربعون فرسخًا. احزم أسلحتك ودرعك وودِّع أصدقاءك واستعدَّ للرَّحيل مع مطلع الفَجر غدًا».
قال اللورد چانوس: «لا»، وهبَّ واقفًا مسقطًا مقعده إلى الوراء، وتابعَ: «لن أذهب ذليلًا لأتجمَّد وأموت. لا نغل ابن خائن يُملي الأوامر على چانوس سلينت! أحذِّرك، إنني لستُ عديم الأصدقاء، هنا وفي (كينجز لاندنج) أيضًا. لقد كنتُ سيِّد (هارنهال)! أعطِ أطلالك لأحد الحمقى العميان الذين صوَّتوا لك، أمَّا أنا فلن أسمح لك. هل تسمعنى أيها الصَّبي؟ لن أسمح لك!».
- «ستفعل».
لم يُحاوِل سلينت مجرَّد الرَّد، لكنه ركلَ المقعد إلى الجانب في طريقه وهو خارج.
ما زالَ يراني صبيًّا، صبيًّا أخضر تُرهِبه الكلمات الغاضبة. ليس بوسعه إلَّا أن يأمل أن ينام اللورد چانوس اللَّيلة ويصحو ثائبًا إلى رُشده.
لكن الصَّباح التَّالي أثبتَ له أن أمله كان عبثًا.
وجدَ چون سلينت يتناوَل فطوره في القاعة العامَّة ومعه السير أليسر ثورن وعدد كبير من أنصارهما. كانوا يضحكون على شيءٍ ما عندما نزلَ چون السَّلالم مع إميت الحديدي وإد الكئيب، ووراءهم مولي والجواد وچاك كراب الأحمر ورستي فلاورز وأوين الجحش. كان هوب ذو الثَّلاثة أصابع يغرف الثَّريد من قِدره، وقد جلسَ رجال الملكة ورجال الملك والإخوة السُّود إلى موائدهم يأكلون من أوعية الثَّريد أو يملأون بطونهم بالخُبز المحمَّر واللَّحم المقدَّد. رأى چون پيپ وجرِن جالسيْن إلى مائدةٍ وباون مارش إلى أخرى، وشمَّ في الهواء رائحة الدُّخان والشَّحم، وسمعَ أصداء جلبة السَّكاكين والملاعق تتردَّد على السَّقف المقنطَر.
همدَت الأصوات جميعًا في الحال، وقال چون: «لورد سلينت، سأعطيك فُرصةً أخيرةً. ضَع هذه الملعقة واذهب إلى الاسطبلات. لقد أمرتهم بتجهيز حصانك بالسَّرج واللِّجام. الطَّريق إلى (الحارس الرَّمادي) طويل وعر».
ردَّ سلينت: «عليك بالذَّهاب إذن أيها الصَّبي»، وضحكَ مسقطًا الثَّريد على صدره، قبل أن يُردِف: «أظنُّ أن (الحارس الرَّمادي) مكان ملائم لأمثالك، بعيدًا عن القوم الأتقياء الصَّالحين. إن علامة الوحش عليك أيها النَّغل».
- «هل تَرفُض طاعة أمري؟».
قال سلينت ولُغده يرتجف: «يُمكنك أن تدسَّ أمرك في مؤخِّرتك أيها النَّغل».
ارتسمَت بسمة رفيعة على شفتَي أليسر ثورن وركَّز عينيه السَّوداوين على چون، في حين بدأ جودري قاتِل العمالقة الجالس إلى مائدةٍ أخرى يضحك.
قال چون: «كما تُريد»، وأومأَ برأسه لإميت الحديدي قائلًا: «من فضلك خُذ اللورد چانوس إلى (الجِدار)...».
... واحبسه في زنزانةٍ جليديَّة. كان ليقول هذا، فلا شكَّ لديه في أن يومًا أو عشرةً من الحبس داخل الجليد كفيلة بترك سلينت مرتجفًا محمومًا يتوسَّل إطلاق سراحه. وما إن يَخرُج سيبدأ هو وثورن التَّآمُر من جديد.
... وقيِّده إلى حصانه. كان ليقول هذا أيضًا، فإذا كان سلينت لا يرغب في الذَّهاب إلى (الحارس الرَّمادي) كقائدها فليذهب كطبَّاخها. وعندئذٍ ستكون مسألة وقتٍ قبل أن يتهرَّب. وكم رجلًا سيأخذ معه وقتها؟
وهكذا أنهى چون عبارته: «... واشنُقه».
وغاضَت الدِّماء من وجه چانوس سلينت حتى حاكى لون الحليب وسقطَت الملعقة من بين أصابعه.
قطعَ إد وإميت القاعة بخُطواتٍ رنَّت على أرضيَّتها الحجريَّة، وانفتحَ فم باون مارش وانغلقَ دون أن تَخرُج منه كلمة، ومدَّ السير أليسر ثورن يده إلى مقبض سيفه، ففكَّر چون الذي علَّق مخلبه الطَّويل على ظَهره: هلمَّ، جرِّد فولاذك، أعطِني سببًا لأفعل المِثل.
 نهضَ نِصف من في القاعة من رجال، الفُرسان والجنود الجنوبيُّون، المُخلصون للملك ستانيس أو المرأة الحمراء أو الاثنين، وإخوان حَرس اللَّيل المحلَّفون. بعضهم اختارَ چون قائدًا، وبعضهم صوَّت لباون مارش أو السير دينس ماليستر أو كوتر پايك... وبعضهم لچانوس سلينت. مئات منهم كما أذكرُ. تساءلَ چون كم من هؤلاء الرِّجال في القبو الآن، وللحظةٍ تراقصَ العالم على حافة سيف.
ثم رفعَ أليسر ثورن يده عن سيفه وأفسحَ الطَّريق لإد توليت.
قبضَ إد الكئيب على ذراع سلينت وإميت الحديدي على الثَّانية، ومعًا سحباه من على الدِّكَّة، ومحتجًّا صاحَ اللورد چانوس والثَّريد يتناثَر من بين شفتيه: «لا، لا، اترُكاني. إنه مجرَّد صبي، إنه نغل! أبوه كان خائنًا. علامة الوحش عليه، ذئبه هذا... اترُكاني! ستندمان على اليوم الذي وضعتما فيه يدًا على چانوس سلينت. إن لي أصدقاء في (كينجز لاندنج). أحذِّركما...»، وظلَّ يعترض وهما يصعدان به على السَّلالم بحركةٍ هي تارة جرٌّ وتارة دفْع.
تبعَهم چون إلى الخارج، ومن ورائه فرغَ القبو من شاغليه. عند القفص تملَّص سلينت لحظةً وحاولَ أن يُحوِّل الأمر إلى قتال، لكن إميت أمسكَه من عُنقه وضربَ به القضبان الحديد إلى أن أمسكَ عن المقاوَمة، وعندئذٍ كانت (القلعة السَّوداء) كلُّها خرجَت تتفرَّج، حتى ڤال في نافذتها وقد تدلَّت ضفيرتها الذَّهبيَّة من على كتفها، وستانيس الذي وقفَ على درجات (بُرج الملك) محاطًا بفُرسانه.
سمعوا اللورد چانوس يقول: «إذا كان الصَّبي يحسب أنه سيُخيفني فهو مخطئ. لن يجرؤ على شنقي. چانوس سلينت له أصدقاء، أصدقاء مهمُّون، سترون...»، وذرَت الرِّيح بقيَّة عبارته.
فكَّر چون: هذا خطأ، ثم قال: «توقَّف».
التفتَ إليه إميت مقطِّبًا وجهه، وغمغمَ: «سيِّدي؟».
قال چون: «لن أشنقه. أحضِره إلى هنا».
وسمعَ باون مارش يصيح: «أوه، بحقِّ الآلهة».
حملَت الابتسامة التي ابتسمَها اللورد چانوس سلينت لحظتها كلَّ ما في الزُّبدة الفاسدة من حلاوة... إلى أن أضافَ چون: «إد، اجلب لي قُرمةً»، واستلَّ مخلبه الطَّويل.
لدى عثور إد على قُرمةٍ مناسبة كان اللورد چانوس قد تراجعَ إلى داخل القفص من جديد، لكن إميت الحديدي دخلَ وراءه وسحبَه إلى الخارج، وفيما جرَّه إميت ودفعَه عبر السَّاحة صاحَ سلينت: «لا. اترُكني... لا يُمكنك... حين يسمع تايوين لانستر بهذا ستندمو...».
ركلَ إميت ساقيه من تحته، ثم ثبَّت إد الكئيب قدمه على ظَهره ليُبقيه على رُكبتيه فيما دفعَ إميت القُرمة تحت رأسه، وقال له چون سنو: «سيكون الأمر أسهل إذا بقيت ساكنًا. تحرَّك لتفادي الضَّربة وستموت أيضًا، لكن ميتتك ستكون أقبح. مدَّ عُنقك يا سيِّدي». تلاعبَ ضوء الصَّباح الشَّاحب على نصله إذ أحكمَ چون كلتا يديه على مقبض سيفه النَّغل ورفعَه عاليًا، قبل أن يقول متوقِّعًا سبَّةً أخيرةً: «إذا كانت لديك كلمات أخيرة فالآن الوقت المناسب لقولها».
لوى چانوس سلينت رقبته ليَنظُر إليه قائلًا: «أرجوك يا سيِّدي، الرَّحمة. سـ... سأذهبُ، سأذهبُ، سـ...».
قال چون في نفسه: لا، لقد أغلقت ذلك الباب، وهوى مخلبه الطَّويل.
وسألَ أوين الجحش ورأس چانوس سلينت يتدحرَج على الأرض الموحلة: «هل يُمكنني أن آخذ حذاءه؟ إنه جديد تقريبًا، ومبطَّن بالفرو».
ألقى چون نظرةً إلى الوراء نحو ستانيس، وللحظةٍ التقَت أعيُنهما، ثم أومأَ الملك برأسه وعادَ يَدخُل بُرجه.


[1] السَّيف النَّغل مصطلح يُطلَق في عالمَي الواقع والرِّواية على السَّيف الذي يقع حجمه بين السَّيف الطَّويل والسَّيف العظيم الذي يُحمَل باليدين، ويُطلَق عليه أيضًا «يد ونصف». يُلاحَظ أن (المخلب الطَّويل) أقرب إلى السَّيف العظيم، لكنه يُحمَل بيدٍ واحدة. (المُترجم).

الثلاثاء، 13 أغسطس 2019

عندما يكون أكثر من يُضحِكنا أشدَّنا حُزنًا


بقلم چيم نورتون، الكوميديان والكاتب الأكثر مبيعًا على قائمة New York Times، ومُقدِّم برنامج The Jim Norton Show


دائمًا ينتابني إحساسٌ قويٌّ بالضياع عندما يُنهي واحدٌ من الرِّفاق مدمني المخدِّرات أو الكحول حياته، ربما لأن هذه الفِكرة لازَمَتني كهَوَسٍ دائمٍ لسنوات، ولأنني قطعتُ شراييني عِدَّة مرَّات، إلى أن اُجبِرتُ على دخول مصحَّة لإعادة التأهيل والإقلاع عن المخدِّرات في سِنِّ الثامنة عشرة.
لن يعرف أحد أبدًا ما الذي كان روبن ويليامز يُفكِّر فيه بالضبط عندما اتَّخذ قرار إنهاء الألم الذي عاناه بتلك الطريقة، لكنني أعرف أنه لم يكن يرى نفسه كما رآه بقيَّتنا.
التقيتُ روبن ويليامز للمرَّة الأولى سنة 1998، عندما جاء إلى نيويورك سيتي كضيف شرفٍ في Comedy Cellar. ثمَّة نزعة لدى الكوميديانات تجعل إثارة إعجابهم بعملٍ كوميديٍّ ما شيئًا مستحيلًا، ويحبُّون توكيد هذه النقطة بشِدَّة عندما يُقدِّم كوميديانات آخرون أكبر قيمةً وأكثر شُهرةً منهم فقراتٍ أمامهم. على أنني لاحظتُ في تلك الليلة بالذات أن لا أحد من الكوميديانات الحاضرين غادَر بعد أن فرغ روبن من فقرته. تحجَّج كلٌّ منا بشيءٍ ما كي يبقى، ولا أحد منا أراد الاعتراف بهذا، لكن روبن ويليامز كان يؤدِّي فقرته، وشعرنا كلنا بإثارةٍ شديدة أجبرتنا على البقاء ومُشاهَدته.
في موقفٍ كهذا كانت أي مجموعةٍ أخرى من الكوميديانات لتقف منتظرةً إياه في الخارج حاملةً رايات الترحيب، لكن الكوميديانات عبارة -في الحقيقة- عن مجموعةٍ من الحمقى تُحبِّذ الجلوس في الخلفيَّة بقلوبٍ تنبض يسرعة وأذرُعٍ معقودة على الصدور وملامح تتظاهَر بعدم الاهتمام. ليلتها كان أكثر ما أثار انتباهي بخصوص روبن اهتمامه البالغ بأن يُعجِب الكوميديانات الآخرين، وفي تلك الليلة -والليالي الأخرى المشابِهة التي تلتها على مرِّ الأعوام- كان يأتي دائمًا للجلوس معنا إلى مائدة الكوميديانات (التي اشتهرت في مسلسل Louie).
كان يتسيَّد الحوار بسهولة، وكلنا يعرف الفرق بين من يكون ومن نكون، إذ كان روبن واحدًا من هؤلاء الكوميديانات القلائل الأكبر من الحياة، الذين بإمكانهم بمنتهى البساطة أن يجلسوا مع عددٍ من الكوميديانات الآخرين ويُجبرِونهم على الإصغاء إليهم. لكنه لم يكن يفعل هذا بالضبط، بل يتبادل الدُّعابات والضَّحكات معنا ويتعامل بمنتهى التواضُع، وربنا لم يعرف قَطُّ كم أحببناه لهذا السَّبب.
لا شكَّ على الإطلاق في أن روبن خاض صراعًا مع الاكتئاب والإدمان على مدى أعوامٍ طويلة، وعن نفسي أعرف كوميديانات كثيرين يصارعون بدورهم شياطين كراهية النَّفس وتدمير الذَّات. ومع أن أيام تدميري لذاتي قد انتهت عندما أقلعتُ عن المخدَّرات، فإن فكرة الانتحار ظلَّت عالقة أمامي طوال الوقت، كأنها خيار أخير موضوع وراء حاجزٍ من الزجاج يمكنني أن أكسره في حالة الطوارئ، وقد سحرتني فكرة أن أختار مَخرَجي من هذا العالم بنفسي.
لكن عندما جاء اليوم الذي انتحر فيه روبن، وجدتُ الفكرة مُزعِجة وغير ضروريَّة على الإطلاق؛ لا تحمل أيَّ نوعٍ من الانتصار أو السِّحر، بل حملت كلَّ الحُزن والخواء والنَّقص.
إن أكثر من أعرفهم طرافةً يبدون لي أكثر أناسٍ محاطين بالظلام، ولعل هذا هو السبب وراء كونهم الأكثر طرافة... كلما كانت الحُفرة أعمق كان عليك أن تتحلَّى بحِسِّ الدُّعابة كي تحفر لنفسك طريق الخروج.
تطوَّرت الكوميديا عبر الزمن من السقوط بالمقاعد وإلقاء كعكة في وجه أحدهم إلى نواحٍ أخرى أكثر خصوصيَّة وواقعيَّة مع مجيء أمثال لني بروس وريتشارد پرايور وچورچ كارلن، وبدأ الجمهور يرى -من خلال الملاحظات العبقريَة حقًّا التي تُلقَى والصراع على الملأ مع الشياطين الشخصيَّة- أن أكثر من يُضحكونه هُم أقل من يستمتعون بالحياة. قد تُخفي تلك النِّكات والدُّعابات وراءها شيئًا أكثر كآبة، وهكذا بدأت الشقوق تظهر في القناع.
وفي 28 يناير 1977 أزال فريدي پرينز هذا القناع تمامًا وإلى الأبد عندما أطلَق النار على نفسه.
وطوال الخمسة وعشرين عامًا التي مارستُ فيها الكوميديا، عرفتُ ثمانية كوميديانات على الأقل انتحروا.
منذ سنواتٍ قال لي أحدهم إن واحدةً من أكثر السِّمات التي لا تجدها لدى البشر هي مقدرتهم على رؤية أنفسهم كما يراهم الآخرون، وهذا هو ما أفكِّر فيه عادةً عندما يتصرَّف أحدهم بوقاحةٍ دون أن يدري، أو عندما يتعامل أحد كأنه أذكى مما هو عليه في الحقيقة.
كان لديَّ وروبن مديرو الأعمال أنفسهم طوال السنوات العشر الماضية، وقد جاء أحدهم ذات مرَّة ببيلي كريستال ليُشاهِده كمفاجأةٍ في الليلة التي كنت أصوِّر فيها فقرة خاصَّة لبرنامج Jimmy Kimmel. كانت فقرتي تقليديَّة، لكن روبن عاملني كأنني أطحتُ به تمامًا أمام الجمهور!
عندما جاء أبي وأمي للقائي بعد تقديمي فقرةً في أتلانتك سيتي، أصرَّ روبن على قضاء بعض الوقت معهما ليقول أشياء جميلة جدًّا عني، وقد كان حريًّا بغروري الشخصي أن يُصدِّق أنني بهذه الروعة فعلًا، لكن الحقيقة أن روبن كان بالذكاء الكافي ليعرف كم سيعني لوالدَي أن يسمعاه يقول تلك الأشياء العظيمة عن ابنهما.
وقد عنى هذا الكثير بحق...
ببساطة، مستحيل أن روبن أدرك الطريقة التي كنا نراه بها. ببساطة، ليس من الممكن أنه فهم قدر الاحترام والحُب الذي حمله الكوميدانات الآخرون له.
أو أنني آملُ هذا على الأقل...
لأن من المُحزِن حقًّا أن تُفكِّر أنه كان يُدرِك هذا فعلًا، لكنه لم يعُد يكفي.

الخميس، 8 أغسطس 2019

مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»


الكتاب الخامس من «أغنية الجليد والنار»
نهاية العام، عن دار التنوير
ترجمة: هشام فهمي


رفضَ النَّوم أن يأتي، وما كان يُمكن أن يأتي، وبدلًا منه كانت الرِّيح والبرد القارس ونور القمر على الثَّلج... والنَّار. لقد عادَ إلى داخل سَمر على بُعد فراسخ عديدة، واللَّيل يعبق برائحة الدَّم القويَّة. فرائس، وليست بعيدةً. سيكون اللَّحم دافئًا. سالَ اللُّعاب من بين أسنانه إذ استيقظَ الجوع في أحشائه. ليست إلكةً، ليست غزالًا، ليست هذه.
تحرَّك الذِّئب الرَّهيب صوب اللَّحم، ظلٌّ رماديٌّ هزيل ينسلُّ من شجرةٍ إلى أخرى عبر بِركٍ من نور القمر وفوق تباب الثَّلج. هبَّت الرِّيح حوله مبدِّلةً اتِّجاهها، ففقدَ الرَّائحة ثم عثرَ عليها قبل أن يفقدها من جديد، وبينما يبحث عنها مرَّةً أخرى جعلَه صوت بعيد يُرهِف أُذنيه.
علمَ في الحال أنه صوت ذئب، وقد تقدَّم سَمر نحوه بحذرٍ الآن، وسرعان ما عادَت رائحة الدَّم، وإن اختلطَت بها روائح أخرى هذه المرَّة، روائح بول وجلود ميتة وخراء طيور وريش، وذئب، وذئب، وذئب. قطيع. عليه أن يُقاتِل من أجل الظَّفر بلحمه هذا.
الذِّئاب أيضًا شعرَت بوجوده، وراقبَته إذ خرجَ من ظُلمة الأشجار إلى الأرض الفضاء الدَّامية. كانت الأنثى تلوك فردة حذاءٍ جِلد ما زالَ فيها نِصف ساق، لكنها تركَتها تَسقُط مع اقترابه، أمَّا قائد القطيع، وهو ذكر عجوز له خطم أبيض وعين عمياء، فقد تقدَّم يُقابِله مزمجرًا وكاشفًا أسنانه، ووراءه كشَّر ذكر أصغر عن أنيابه هو الآخَر.
تشرَّبت عينا الذِّئب الرَّهيب الصَّفراوان الباهتتان المناظر المحيطة، من المصارين الملتفَّة على شُجيرة، إلى البُخار المتصاعد من بطنٍ مبقور حاملًا رائحة الدَّم واللَّحم الغنيَّة، إلى رأسٍ يُحدِّق بلا بصرٍ إلى القمر الهلال وقد مُزِّقَت الوجنتان حتى العظم وصارَت العينان حُفرتين غائرتين وانتهى العُنق بجَدعةٍ مهترئة.
إلى بِركة من الدِّماء المتجمِّدة تلتمع بالأسود والأحمر.
بَشر. ملأَت رائحتهم الزَّنخة العالم. في حياتهم كانوا بعدد أصابع كفِّ الإنسان، لكنهم الآن صِفر. ماتوا، انتهوا، لحم. من قبل كانوا يرتدون المعاطف والقلنسوات، لكن الذِّئاب مزَّقت ثيابهم إربًا إربًا في هياجها سعيًا إلى اللَّحم، ومن لا تزال لهم وجوه يُغطِّي لحاهم الجليد والمُخاط المتجمِّد، وقد بدأ الثَّلج المتساقط يدفن ما تبقَّى منهم، يبدو في غاية الشُّحوب مقارنةً بسواد معاطفهم وسراويلهم الرثَّة. أسود.
وعلى بُعد فراسخ عديدة تململَ الصَّبي باضطراب.
أسود، حَرس اللَّيل، كانوا من حَرس اللَّيل.
على أن الذِّئب الرَّهيب لم يُبالِ. إنه لحم، وهو جائع.
برقَت أعيُن الذِّئاب الثَّلاثة بالأصفر، وطوَّح الذِّئب الرَّهيب رأسه من جانبٍ إلى جانبٍ بمنخرين اتَّسعا، ثم كشَّر عن أنيابه زائمًا. تراجعَ الذَّكر الأصغر، وشمَّ الذِّئب الرَّهيب رائحة الخوف فيه. الذَّيل. لكن الذِّئب الأعور أجابَه بزمجرةٍ وتقدَّم يصدُّ تقدُّمه. الرَّأس، ولا يخشاني مع أنني في ضِعف حجمه.
التقَت أعيُنهما.
وارْج!
ثم انقضَّ الاثنان، الذِّئب والذِّئب الرَّهيب، ولم يَعُد هناك وقت للتَّفكير. اختُصِرَ العالم في الأسنان والمخالب والثَّلج المتطاير حولهما وهما يتدحرجان ويدوران ويُحاوِل كلاهما نهش الآخَر، في حين راحَ الذِّئبان المتبقِّيان يزومان ويُزَمجِران حولهما. انغلقَ فكَّاه على فروٍ أشعث جعلَه الصَّقيع زلقًا، وعلى قائمةٍ رفيعة كعصا جافَّة، لكن الذِّئب الأعور خمشَ بطنه وحرَّر نفسه، ثم تدحرجَ وعادَ ينقضُّ. انغلقَت أنياب صفراء حول عُنقه، لكنه نفضَ ابن عمومته الأشهب العجوز عنه كأنما ينفض جرذًا، ثم انقضَّ عليه وأسقطَه. بين دحرجةٍ وعضٍّ وركلٍ تقاتَلا، إلى أن تقطَّعت أنفاسهما وتساقطَت الدِّماء على الثَّلج حولهما، لكن في النِّهاية استلقى الذِّئب الأعور العجوز وكشفَ بطنه، فنهشَ الذِّئب الرَّهيب الهواء في وجهه مرَّتين، ثم تشمَّم مؤخِّرته ورفعَ ساقًا فوقه.
وبعد بضع نهشاتٍ وزمجرة إنذار رضخَت الأنثى والذَّيل بدورهما، وأصبحَ القطيع له.
والفرائس أيضًا. تنقَّل من رجلٍ إلى رجلٍ يتشمَّم قبل أن يستقرَّ على أكبرهم حجمًا، شيء بلا وجهٍ يقبض بيده على قطعةٍ من الحديد الأسود، وقد غابَت يده الأخرى المقطوعة عند المعصم ورُبِطَت جَدعتها بالجِلد. من الشَّقِّ في حَلقه سالَ الدَّم ثخينًا ثقيلًا، وراحَ الذِّئب يَلِغ فيه بلسانه، ولعقَ خراب الأنف والوجنتين في الوجه الذي ما عادَت له عينان، قبل أن يدفن خطمه في العُنق ويُمزِّقه ويزدرد قطعةً من اللَّحم الجميل، لحم لم يَذُق في حلاوته مثيلًا.
 حين فرغَ من هذه انتقلَ إلى جثَّة الرَّجل التَّالي والتهمَ أفضل القِطع منها، ومن فوق الأشجار راقبَته الغِدفان الجاثمة بصمتٍ وأعيُنٍ سوداء على الفروع والثَّلج يَسقُط من حولها. تدبَّرت الذِّئاب الأخرى أمرها بفُضالته، فأكلَ الذَّكر العجوز أولًا، ثم الأنثى، ثم الذَّيل. إنهم له الآن، إنهم قطيعه.
همسَ الصَّبي: لا، إن لنا قطيعًا آخَر. ليدي ماتَت، وربما جراي ويند أيضًا، لكن في مكانٍ ما شاجيدوج ونايميريا وجوست أحياء. هل تَذكُر جوست؟
بدأت الثُّلوج والذِّئاب ووليمتها تبهت، وضربَ الدِّفء وجهه باثًّا فيه الرَّاحة كقُبلات أُم. نار، دُخان. اختلجَ أنفه على إثر رائحة اللَّحم المشوي التي ملأَته، ثم انسحبَت الغابة ووجدَ نفسه في القاعة الطَّويلة من جديد، في جسده المكسور يَنظُر إلى نارٍ مشتعلة. كانت ميرا ريد تُدوِّر قطعةً من اللَّحم الأحمر النَّيئ فوق لهبٍ يسفعها فتُطَقطِق، وقد خاطبَته قائلةً: «في الوقت المناسب». فركَ بران عينيه بكعب يده وزحفَ إلى الوراء ليجلس مستندًا إلى الحائط، وأردفَت هي: «كادَ العَشاء يفوتك وأنت نائم. الجوَّال وجدَ خنزيرةً».
وراءها رأى هودور يلتهم بنهمٍ قطعةً من اللَّحم السَّاخن والدَّم والدُّهن يسيلان ليتخلَّلا لحيته، وقد تصاعدَت خيوط من الدُّخان من بين أصابعه، وبين كلِّ قضمةٍ وقضمةٍ يُتَمتِم: «هودور، هودور، هودور»، وإلى جواره كان سيفه موضوعًا على الأرض التُّرابيَّة، أمَّا چوچن ريد فأكلَ قطعته ببُطءٍ قضمةً قضمةً، يَمضُغ كلَّ واحدةٍ مرارًا قبل أن يبتلعها.
الجوَّال قتلَ خنزيرًا. كان ذو اليدين الباردتين واقفًا عند الباب بغُدافٍ على ذراعه وكلاهما يَنظُر إلى النَّار، واللَّهب منعكس في أربع أعيُنٍ سوداء. قال بران لنفسه متذكِّرًا: إنه لا يأكل، ويهاب النَّار.
 قال للجوَّال: «قلت لا نار».
- «الجُدران المحيطة بنا تُخفي الضَّوء، والفَجر دانٍ. سنُواصِل طريقنا قريبًا».
- «ماذا حدثَ للرِّجال؟ للأعداء الذين كانوا وراءنا؟».
- «لن يُزعِجوكم».
- «مَن كانوا؟ هَمجًا؟».
قلبَت ميرا اللَّحم لتشوي الجانب الآخَر، وانشغلَ هودور بالمضغ والابتلاع والتَّمتمة السَّعيدة الخفيضة. وحده چوچن بدا منتبهًا لما يَحدُث إذ التفتَ ذو اليدين الباردتين برأسه يَرمُق بران قائلًا: «كانوا أعداء».
كانوا رجالًا من حَرس اللَّيل. «لقد قتلتهم، أنت والغِدفان. كانت وجوههم ممزَّقةً وأعيُنهم مفقوئةً». لم يُنكِر ذو اليدين الباردتين، فتابعَ بران: «كانوا إخوةً. لقد رأيتهم. الذِّئاب مزَّقت ثيابهم لكنني استطعتُ تمييزها. كانت معاطفهم سوداء كيديك». لم يقل ذو اليدين الباردتين شيئًا، فسألَه بران بإلحاح: «مَن أنت؟ ما سبب اسوداد يديك؟».
أمعنَ الجوَّال النَّظر إلى يديه كأنه لم يرَهما من قبل، ثم أجابَ بصوتٍ أجش، مِثله رفيع هزيل: «ما إن يكفَّ القلب عن الخفقان تتدفَّق دماء المرء إلى أطرافه حيث تتخثَّر وتتجمَّد، وتتورَّم يداه وقدماه وتسودَّان كالعجين، أمَّا بقيَّته فتصير بيضاء كالحليب».
نهضَت ميرا ريد رافعةً رُمحها الذي ما زالَت قطعة من اللَّحم الدَّاخن مغروسةً فيه، وقالت: «أرِنا وجهك».
لكن الجوَّال لم يتحرَّك قيد أُنملة.
قال بران متذوِّقًا المِرَّة في حَلقه: «إنه ميت. ميرا، إنه شيء ميت ما. الوحوش لا تستطيع المرور ما دامَ (الجِدار) قائمًا ورجال حَرس اللَّيل مخلصين. هذا ما اعتادَت العجوز نان قوله. لقد أتى يُقابِلنا عند (الجِدار)، لكنه لم يستطِع المرور، ولذا أرسلَ سام وتلك الفتاة الهمجيَّة».
أحكمَت ميرا قبضتها حول قناة الرُّمح، وسألَت الجوَّال: «مَن أرسلَك؟ من هذا الغُراب ذو الأعيُن الثَّلاث؟».
- «صديق، حالم، ساحر، يُمكنكم تسميته كما شئتم. إنه آخِر الأنبياء الخُضر».
انفتحَ باب القاعة الطَّويلة الخشبي بعُنف، وبالخارج عوَت ريح اللَّيل الكئيبة السَّوداء. كانت الأشجار تعجُّ بالغِدفان الصَّارخة، ولم يتحرَّك ذو اليدين الباردتين.
قال بران: «وحش».
نظرَ الجوَّال إلى بران كأنما ليس للآخَرين وجود، وردَّ: «وحشك أنت يا براندون ستارك».
ردَّد الغُداف من فوق كتفه: «وحشك!»، وخارج الباب تلقَّت الغِدفان الجاثمة على الأشجار الكلمة، حتى ردَّدت غابة اللَّيل كلُّها صيحة السِّرب: «وحشك، وحشك، وحشك!».
سألَت ميرا أخاها: «چوچن، هل حلمت بهذا؟ مَن هو؟ ماذا يكون؟ ماذا نفعل الآن؟».
أجابَها چوچن: «نذهب مع الجوَّال. لقد قطعنا شوطًا أطول من أن نرجع الآن يا ميرا. لن نستطيع العودة إلى (الجِدار) أحياء أبدًا. إمَّا أن نذهب مع وحش بران وإمَّا أن نموت».

مقتطف من ترجمة غير منشورة لـ«سيِّد الخواتم»

چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم» واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي، الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في ا...