الثلاثاء، 18 ديسمبر 2018

اليوم العالمي للغة العربية

هشام فهمي


في اليوم العالمي للُّغة العربيَّة، أرى الأصدقاء والزُّملاء يحتفلون ويحتفون بها على صفحاتهم، فأفكِّرُ أنه يَجدُر بي أن أكتب شيئًا بدوري، باعتباري مترجِمًا إلى هذه اللُّغة، وأكل عيْشي ذاته مرهون بأن أجيدها وأواصل التبحُّر فيها مثل الإنجليزيَّة بالضبط، بل وأكثر، فمن السهل أن تبحث في القواميس عن معنى كلمةٍ ما، أمَّا التعبير عنها بالعربيَّة بالشكل السليم في المكان السليم فليس بالسهولة نفسها. أكتبُ هذا المفتتَح ثم أعيد قراءته، فأتوقَّفُ عند كلمة "يحتفون" ويَخطُر لي أن أتأكَّد من معناها، لأن لديَّ شكًّا مفاجئًا في كون الفعل يتعدَّى بذاته أم بحرف جر. هكذا أفتح المعاجم، مع أني استخدمتُ الكلمة مرارًا من قبل، وأراجعُ معلوماتي والفارق بين معنييْها المختلفيْن (الاحتفاء بمعنى خلع النعل، والاحتفاء كما قصدته). الآن أضعُ يدي على طرف خيط الكلام الذي يُمكنني أن أكتبه. كنتُ أكرهُ العربيَّة... بالأحرى كنتُ أكرهُ تعلُّمها، على الرغم من حُبِّي القراءة بها منذ الصِّغر، فكنتُ أقرأُ نجيب محفوظ كما أقرأ ملف المستقبل، وطه حسين كالمغامرين الخمسة، أي شيء في متناوَلي أقرأه، لكن الدراسة كانت شيئًا آخَر، ودائمًا كانت درجاتي متوسِّطة على الأكثر في المادَّة، والنحو بالتحديد كان أكثر ما كرهته، وحتى الآن أجدُ مشكلةً في حِفظ أغلب القواعد. مشكلتي أن العربيَّة صعبة، وقواعدها كثيرة للغاية، ومهما تعلَّمتُ وأجدتُ فلن أدرك إلَّا النَّزر اليسير منها، فـWhy bother with it؟ هذا ما كنتُ أقوله لنفسي. الجزء الأخير قلته بالإنجليزيَّة بالفعل، هكذا كنتُ وما زلتُ أكلِّمُ نفسي وغيري، باللُّغة التي وقعتُ في غرامها منذ البداية وتفوَّقتُ فيها على الفور. ثم بدأتُ العمل في الترجمة على استحياء، ترجمة قوائم وسِيَر ذاتيَّة وتقارير وخلافه، الأشياء التي لا يُبالي أصحابها كثيرًا بسلامة النحو أو علامات الترقيم وما إلى ذلك ما دام الكلام واضحًا. وقتها كنتُ أعملُ في "نت كافيه" صغير، ولا تصوُّر عندي لامتهان الترجمة فعليًّا. ثم كان ذلك اليوم الشِّتوي في عام 2004 في ميدان محطة الرمل بالإسكندريَّة مدينتي الأولى، عند باعة الصُّحف، حين أثار غيظي لأقصى حد الغلاف الخلفي لروايةٍ ما لا أذكر عنوانها، عليه عبارة "منسيُّون ولسنا منسيِّين". ما أثار غيظي أني لا أعرفُ لماذا تأتي الكلمة هنا "بالواو" وهنا "بالياء"! كان عام كامل قد مرَّ على هذه الحادثة الصغيرة، قبل أن أبدأ الترجمة الاحترافيَّة للمرَّة الأولى، ترجمة الأفلام والمسلسلات في معمل ترجمة، ولأني صرتُ "محترفًا"، فكان عليَّ أن أعطي العمل حقَّه، فأصغيتُ إلى نصيحة أستاذي وزميل العمل عادل ميخائيل رحمه الله، لمَّا قال إنه يتنبَّأ لي بمستقبَل في الترجمة، ويراني أواصلُ حياتي في ممارستها، فما يراه حين يراجع عملي مبشِّر للغاية، لكن عليَّ أن أحرص أكثر على الإلمام بقواعد اللُّغة وأعرف الأخطاء الشائعة (التي كنا نقترف بعضها في ترجمة الشاشة مع معرفتنا بها، مثل "حسنًا" و"خاصتي" اللعينتين، لكن السوق والمحطات تفرض رغبتها دومًا)، وأتعلَّم متى وأين أستخدم البلاغة، والتعبيرات والتراكيب التي يصحُّ استخدامها هنا بينما لا يجوز هناك، وهكذا... قبلتُ التعلُّم الحقيقي للضرورة المهنيَّة، واستحالَت الضرورة إلى حُب، واستحالَ الحُب إلى حُب ضروري. أردتُ أن تُشاهِد أمِّي فيلمًا بترجمتي، وأردتُ أن تنبسِط أمِّي -معلِّمة اللُّغة العربيَّة- مني، فحرصتُ على أن تُشاهِد الفيلم بترجمة تليق بها وباللُّغة... وانبسطَت، وأحببتُ اللُّغة أكثر. بين الكراهية والحُب مسافة طويلة قطعتُ أكثرها بلا وعي أو نيَّة بعينها، لكن الحُب عندي مرتبِط بالاحترام، والاحترام يعني ألَّا يُخالِجني أي وهم عن أني أعرفُ كلَّ ما تلزمني معرفته عن العربيَّة، وأني سأظلُّ أتعلَّم وأرتكب أخطاءً فأتعلَّمها فأراجعُ نفسي فأشكِّكُ في معلوماتي أحيانًا وأتأكَّدُ منها فأنتجُ عملًا أفضل، وهكذا بلا نهاية لهذا المحيط الشاسع. في اليوم العالمي للُّغة العربيَّة، أكتبُ، وباختصارٍ مُخِل، عن علاقتي باللُّغة العربيَّة، لكني سعيد لأني كتبتُ.

الخميس، 22 نوفمبر 2018

البلوز وأنا

هيو لوري يكتب عن تجربته الغنائيَّة الأولى
   ترجمة: هشام فهمي



لم أولد في ألاباما في القرن التاسع عشر، ولا بد أنكم تعرفون هذا الآن، ولم أذُق أبدًا ذلك الطبق الذي يُسمُّونه ”البرغل“، أو أؤجر أرضي الزراعية، أو أركب عربة المواشي في قطار. لم تحضر امرأة غجرية مولدي، ولا يوجد كلب من كلاب الجحيم يطاردني... على حدِّ علمي على الأقل. في الحقيقة، دعني أقول الآن إنني رجل إنجليزي أبيض من الطبقة المتوسطة يتطفَّل علنًا على موسيقا وأساطير الجنوب الأمريكي.

وإذا لم يكن هذا سيئًا بما فيه الكفاية، فإنني ممثل أيضًا؛ واحد من هؤلاء الحمقى المدلَّلين الذين لا يستطيعون مجرَّد الذهاب إلى المطار وحدهم دون جليسة أطفال، فلن أندهش إذن إذا وجدت حروفًا من الأبجدية الصينية موشومة على مؤخرتي أو حتى مرفقي، لا فارق.

الأسوأ أنني كسرت قاعدة مهمة في الفن والموسيقا والمسار المهني بشكلٍ عام: الممثلون حريٌّ بهم العمل في التمثيل فقط، والموسيقيون حريٌّ بهم العمل في الموسيقا فقط. هكذا الأمر. إنك لا تشتري السمَك من طبيب الأسنان، أو تطلب نصائح اقتصادية من السبَّاك، فلِمَ تستمع إلى موسيقا مَن يُفترَض أنه ممثل أصلاً؟

الإجابة هي أنه ليست هناك إجابة. إذا كنت تهتم بالأصالة، فيجدر بك أن تبحث عنها في مكانٍ آخر إذن، فليس لديَّ شيء على مقاسك.

ربما من الضروري أن أذكر أنني كنت طفلًا لعينًا. لم أكن ميَّالًا لأي شيء له علاقة بالكُتب، بل قضيتُ الجزء الأكبر من شبابي أدخِّن السجائر وأغش في امتحانات اللغة الفرنسية، وكنت أرتدي حذاءً طويل العنق تتدلى منه جمجمعة وعظمتان عند الكاحل. شعري كان يجلب العار، وبشكلٍ ما نجحت في حيلة أن أكون بدينًا ونحيفًا في الآن نفسه، ولو مررت بي في الشارع في سنوات الظلام تلك فإنني متأكِّد من أنك كنت -على أقل تقدير- لتمشي بخطواتٍ أسرع.

هل تظنني أبالغ؟ غير حقيقي. إنني عندما ألقي نظرة على كرَّاساتي في تلك المرحلة أجدُ مثل كلمات ”شنيع“ و”ميئوس“ تتكرَّر بكثرة، بينما تظهر كلمات ”لا“ و”كلا“ و”أبدًا“ و”حاول مرَّة أخرى“ بكثرةٍ أكبر من أن تحتملها عينة عشوائية من الكرَّاسات.

هكذا لك أن تتصورني وأنا في السادسة من عمري عندما بدأت دروس الپيانو مع مسز هاير. كانت امرأة لطيفة على الأرجح، لكن ذاكرتي الطفولية حوَّلتها إلى ساحرة شريرة لا تنقصها الساديَّة، تخزني بالعصا لأعبر فوق جمرات الدو ري مي الملتهبة. احتملت فترة حوالي ثلاثة شهور زحفًا في كتاب ”الپيانو للمبتدئين“ نحو واحة ”نهر البجع“، وهي ليست أغنية بلوز بالضبط، لكنها أقرب إلى ذلك بكثير من أغاني المهد الفرنسية والرقصات الپولندية السخيفة التي امتلأ بها هذا الكتاب القادم من الجحيم.

وأخيرًا جاء اليوم الذي قلبت فيه مسز هاير الصفحة، وقرأت من خلال نظارتها الأنفية -التي ما زلت أذكرها بعد 45 عامًا- وقد ابتلَّ الشارب فوق شفتها العليا: أغنية روحانية للزنوج، مختصرة بعض الشيء. لا، إن هذا...

وقلبت الصفحة إلى أغنية اسمها ”النمر والفيل“ أو كابوس آخر مشابه، وعندها انتهت علاقتي بتعلُّم الموسيقا بشكلٍ رسمي إلى الأبد.

ثم ذات يوم سمعت أغنية في الراديو، وأعتقد بشدة أنها كانت I Can't Quit You, Baby لويلي ديكسن، وتغيَّرت يومها حياتي تمامًا. تكوَّن بيني وبين مفاتيح الموسيقا ثُقب دودي ودخلتُ بلاد العجائب، ومنذ ذلك الحين وموسيقا البلوز تجعلني أضحك وأبكي وأرقص... لكن اعذرني، لا أستطيع أن أخبرك بجميع الأشياء التي جعلتني البلوز أفعلها حفاظًا على أسرار العائلة.

في قلب هذه المملكة السحريَّة الكبيرة، وفوق تلٍّ مرتفع (ما يوضح لك معرفتي الضئيلة وقتها) كانت مدينة نيو أورلينز، عاصمة البلوز في العالم. في مخيلتي كانت نيو أورلينز متقدة بالموسيقا والرومانسية والبهجة واليأس، واخترقت ألحانها نفسيتي الإنجليزية الخرقاء لتجعلني في أحيانٍ سعيدًا للغاية، وفي أحيانٍ أخرى بالغ الحزن، فلم أكن أعرف ماذا أفعل بنفسي. نيو أورلينز كانت لي بمثابة أرض الميعاد.

طوال السنوات العشر التالية التهمتُ أعمال جميع لاعبي الجيتار التي عثرت عليها، ثم عازفي الپيانو المرموقين، وكل هؤلاء أكثر من أستطيع حصر عُشرهم هنا. أظن أنني فضَّلت الپيانو على الجيتار لأنه يظل ثابتًا في مكانٍ واحد، وهو شيء أحب أن أفعله، بينما يجذب الجيتار القلقين الضجرين، وأنا أحب الجلوس كثيرًا.

أما بالنسبة للمغنِّين، فهناك قائمة ضخمة ليس عليها غير اسمين: راي تشارلز وبسي سميث.

كل هؤلاء الفنانين العظماء عاشوا موسيقاهم وهُم يلعبونها. كلهم يعرف ثمن رغيف الخبز، وأكثرهم جاءت عليه أوقات لم يملك فيها هذا الثمن. إن لديهم أوراق اعتماد هي تجربتهم في الحياة، وهذا شيء أحترمه مثلي مثل غيري، وربما أكثر.

لكنني في الوقت ذاته لا أستطيع رؤية هذه الموسيقا وهي حبيسة في علبة زجاجية تعلوها لافتة تقول: ”لا يقربها إلى السُّود الكهول“، فهذا هو الطريق إلى القبر، سواء بالنسبة للبلوز أو أي شيء آخر. لم يكن شيكسپير يعرض مسرحياته إلا في مسرح جلوب، وموسيقا باخ لا يلعبها إلا ألمان يرتدون سراويل ضيقة. هذا هو الفورمالدهايد بعينه.

هذه إذن هي أوراق اعتمادي، بطاقة تعريفي المهترئة التي أتمنى أن تقودني إلى النجاح. إنني أحب هذه الموسيقا على أكثر نحوٍ أصيل أعرفه، وأتمنى أن تحبونها أيضًا. وإذا وجدتم فيها واحدًا على ألف من المتعة التي أجدها فيها، فإننا قد قطعنا شوطًا طويلًا بالفعل.

الثلاثاء، 20 نوفمبر 2018

آلبرت آينشتاين: هكذا تتعلَّم أكثر


ترجمة: هشام فهمي

الرسالة التي كتبها آينشتاين لابنه ذي الأحد عشر عامًا، بعد أن استطاع أخيرًا تلخيص نظريَّة النسبيَّة في صفحتين لا غير.



تلقَّيتُ بالأمس رسالتك الغالية وسعدتُ بها للغاية. كنتُ أخشى أنك لن تكتب لي ثانيةً أبدًا، فقد قلت لي عندما كنتُ في زيورخ، إنك تشعر بعدم الراحة في أثناء وجودي هناك، ولهذا أظنُّ أن من الأفضل أن نلتقي في مكانٍ آخر حيث لا يُقلِق أحد راحتنا. في جميع الأحوال سأصرُّ على أن نقضي شهرًا كاملًا معًا كلَّ عام، كي ترى أن لديك أبًا مولعًا بك ويحبك. يُمكنك كذلك أن تتعلَّم أشياءَ كثيرة مفيدة وجميلة مني، وهو الشيء الذي لا يستطيع شخص آخر تقديمه لك بسهولة. ما حقَّقته بالكثير من العمل الشاق لن يبقى من أجل الغرباء فقط، بل من أجل ولديَّ على وجه الخصوص. لقد أكملتُ هذه الأيام واحدًا من أجمل الأعمال في حياتي، وسأحكي لك عنه عندما تكبر.

يسرُّني للغاية أنك تجد متعةً في العزف على الپيانو، فهذا بالإضافة إلى النِّجارة -في رأيي- أفضل ما يُمكن أن تُمارِسه في سنِّك هذه، بل وأفضل من المدرسة كذلك، لأنهما شيئان يُلائمان شخصًا صغيرًا مثلك تمامًا. أريدك في المقام الأول أن تعزف مقطوعات الپيانو التي تُثير في نفسك السُّرور، حتى إذا لم يُملِ المعلِّم عليك أن تعزفها. هذه هي الطريقة التي تتعلَّم بها أكثر، الطريقة التي تجعلك تفعل شيئًا بمنتهى الاستمتاع، لدرجة أنك لا تلاحظ مرور الوقت. إنني أستغرقُ أحيانًا في عملي تمامًا فأنسى وجبة الظَّهيرة. العب قذف الحلقات مع تيتي أيضًا، لأن هذا يعلِّمك الرشاقة، وكذلك اذهب إلى صديقي تسانجر، فهو رجل عزيز.

قُبلاتي لك ولتيتي
من بابا
تحيَّاتي إلى ماما

من كتاب Posterity: Letters of Great Americans to Their Children

http://goo.gl/kImhe2

الاثنين، 19 نوفمبر 2018

أضواء المسرح


مُقتطف من الرواية الوحيدة التي كتبها تشارلي تشاپلن
ترجمة: هشام فهمي



- «الجمهور؟ ولماذا تكره الجمهور؟».
أجابها بابتسامةٍ حزينة: «لأنني عجوز لم يعُد يشعر بشيءٍ إلا المرارة على ما أعتقد».
هزَّت رأسها دون أن تُبعد عينيها عنه، وقالت: «لستَ عجوزًا، كما أنني واثقة بأنك لا تشعر بالمرارة. إنك تحب الناس كثيرًا».
- «أحبهم فرادى نعم، فهناك شيء من العظَمة في كلِّ واحدٍ منهم... لكن عندما يجتمعون ليُكوِّنوا جمهورًا... تعرفين كيف يكونون. إنهم مزيج غير متجانِس من مختلف المشارِب والأهواء. ذلك الذي كان نجمًا كبيرًا ذات يوم، فأمطروه استهجانًا لينزل عن خشبة المسرح... أدركتُ أن هذا قد يحدث لي أيضًا. عندما يتقدَّم الكوميديان في العمر وتتلاشى حيويَّته، فيجب أن يُفكِّر في عمله ويُحلِّله، هذا إذا كان لا يزال يرغب في الاستمرار في العمل الكوميدي... ويجب أن يُفكِّر في الجمهور، وأنا بدأت أخاف الجمهور. هؤلاء القوم قساة حقًّا، لا يمكنك توقُّع ردَّة فعلهم، كأنهم وحشٌ بلا رأس، ولا تعرفين أبدًا ما الذي سوف يَصدُر منهم، من الممكن أن يكون أيَّ شيء. لهذا السبب كان يجب أن أتناول شرابًا قبل أن أخرج لأواجههم. كلُّ عرضٍ الآن أصبح عذابًا. إنني لم أحب الشراب حقًّا من قبل، لكني لم أستطع أن أكون مُضحِكًا دونه، وكلما شربت أكثر...»، وهزَّ كتفيه مضيفًا: «لقد صارت دائرة مفرغة».
- «ماذا حدث؟».
- «انهيار عصبي. كنت على شفا الموت».
- «وما زلت تشرب؟».
أجاب مبتسمًا: «أحيانًا، عندما أفكِّر في أشياء بعينها، في الأشياء الخطأ ربما. لكني تكلَّمت بما يكفي عن نفسي. ماذا عنك؟ ماذا تريدين على الإفطار؟».
قالت مُطرِقةً: «الكوميديا عمل حزين حقًّا».
كانت الطاولة مُعدَّة، وهو جاهز لطهي وجبة الإفطار، لكنه توقَّف في مكانه وقال مُفكِّرًا بعُمق: «لكن لديها ما تُكافئك به... النَّشوة الغامرة التي تنتابك وأنت تسمعين الجمهور يضحك...».
ثم قال وهو يفتح باب الثلاجة: «لنرَ. لديَّ بيض وسلمون وسردين، و...».
وبتر عبارته ليُطرقِع بأصابعه ويقول: «الحُلم! لقد حلمت بأننا نؤدِّي نِمرة معًا! لكن هذه هي المشكلة: في أحلامي تراودني أفكار رائعة، لكني أنساها عندما أستيقظ. هذا الصباح وجدت نفسي أهتز من فرط الضحك، ثم نهضت وهرعت إلى المكتب وخططت خمس صفحات من النِّمَر التي ستقتلهم ضحكًا. ثم إنني استيقظت لأجد أني لم أكتب حرفًا».
- «هذا محبِط!».
- «يمكنني أن أعود، فقط إذا تذكَّرت أحلامي. يجب أن أعمل، وليس من أجل المال فقط، بل من أجل روحي».
- «ليتني أستطيع مساعدتك».
قال بجديَّة: «أعرف أنني مُضحِك فعلًا، لكن مديري المسارح يقولون إنني انتهيت، إن نجمي أفل. رباه! كم سيكون رائعًا أن أجعلهم يلتهمون كلماتهم! لكن هذا ما يجعلني أكره العجز؛ الاحتقار واللا مبالاة اللذان يعاملون بهما المرء. يعتقدون أنني صرت عديم الفائدة، أن زمني انتهى، ولهذا سيكون من الرائع أن أعود، أن تكون عودتي مدويةً، أن يرتجَّ المسرح بالضحكات كما كان من قبل، أن تغمرك أمواج الضحك فترفعك عن الأرض. تشعرين عندها بأنك تريدين مشاركتهم الضحك، لكنك تكتمينه في داخلك. لا شيء في العالم يضاهي هذا الشعور». ثم صمت لحظةً قبل أن يُردِف: «وبقدرِ ما أمقت هؤلاء الأوغاد، أعشق سماعهم يضحكون!».

------

كتبها سنة 1948، ونُشرت للمرَّة الأولى في 2014


الأحد، 18 نوفمبر 2018

أسماء الله التسعة بلايين


   آرثر سي كلارك
   ترجمة: هشام فهمي


قال د. واجنر محاوِلًا إخفاء دهشته قدر الإمكان: «طلبٌ غير معتاد فعلًا. إنها المرَّة الأولى التي يُطلَب فيها منا إرسال كومپيوتر للمتتالِيات العدديَّة إلى دَيْرٍ في التبت. لا أرغبُ في أن أبدو فظًّا، لكني أتساءَلُ عن سبب احتياج جماعتكم لآلةٍ من هذا النوع، فهلَّا شرَحت لي ما تنتوون عمله بها؟».
أجاب اللاما وهو يضع مفكِّرته جانبًا بحِرص: «بكلِّ سرور. الكومپيوتر الذي صنعتموه، مارك 5 هذا، يُمكنه سرد جميع المتتالِيات العدديَّة التقليديَّة حتى عشر خانات، لكن ما نحن مهتمُّون به حقًّا هو الحروف لا الأرقام، ولهذا السَّبب نريد منكم تعديل الآلة، بحيث تطبع قوائم من الكلمات وليس الأعداد».
- «لا أعتَقِدُ أني أفهمك».
- «العمل الذي نقوم به استغرقَ منا القرون الثلاثة الأخيرة، منذ بداية إنشاء الدَّيْر في الحقيقة. ما سأُخبِرك به سيكون غريبًا بعض الشيء على طريقتكم في التفكير، لكني آملُ أن تُصغي إليه بعقلٍ متفتِّح».
- «هذا مفروغٌ منه».
- «السبب بسيط جدًّا في الحقيقة. إننا نعمل على قائمةٍ تَضُمُّ جميع الأسماء المحتمَلة لله!».
كان للإجابة وَقْعٌ صادِم على د. واجنر، الذي اتَّسعت عيناه عن آخرهما، بينما تابَع اللاما بهدوء: «لدينا أسباب تدعونا للاعتقاد بأن كلًّا من هذه الأسماء من الممكن أن يُكتَب بما لا يزيد على تسعة أحرُف من الأبجديَّة التي ابتكرناها».
- «وتفعلون هذا منذ ثلاثة قرون؟».
- «نعم. حساباتنا قالت إن الانتهاء من القائمة سيستغرق منا خمسة عشر ألف سنة».
قال د. واجنر ببُطء: «أوه، نعم، فهمتُ الآن لِمَ تحتاجون الكومپيوتر. لكن ما الغرض من هذه القائمة أصلًا؟».
تردَّد اللاما لحظةً، فتساءَل د. واجنر إن كان السؤال قد أثار استياءه، لكن الإجابة جاءت بالتهذيب نفسه وطريقة الكلام البطيئة ذاتها كما من قبل: «إنها جزء مهم جدًّا من عقيدتنا. جميع الأسماء المعروفة للخالق الأعظم -سواء عند المسيحيِّين أو المسلمين أو اليهود أو غيرهم- هي أسماء ابتكرها البَشَر. ثمَّة مشاكل معيَّنة في هذه الأفكار، لكن لا مجال للكلام عنها هنا. إننا نؤمن بأنه في مكانٍ ما بين جميع الترتيبات المحتمَلة للحروف تَكمُن الأسماء الحقيقيَّة لله. هكذا نحسب جميع الترتيبات المحتمَلة لحروف الأبجديَّة لنصنع قائمة كاملة بها».
- «فهمتُ. بدأتم إذن بالمصفوفة AAAAAAA وهكذا حتى تنتهون بـZZZZZZZ».
- «بالضبط، لكن الأبجديَّة التي نَستَخدِمها خاصَّة بنا. أخشى أن شَرْحَ جميع التفاصيل سيَستَغِرق وقتًا طويلًا جدًّا، لأنك لا تَعرِف لُغتنا».
سارَع د. واجنر يقول: «بالتأكيد».
- «من حُسن الحظ أنه سيكون من السهل جدًّا إجراء التعديلات اللازمة على المارك 5 كي يقوم بهذا العمل ويطبع لنا الأسماء، وبدلًا من خمسة عشر ألف عام، ستكون القائمة قد اكتملت خلال مئة يومٍ فقط».
كانت أصوات شوارع نيويورك تَبلُغ مسامع د. واجنر في مكتبه الواقع في طابقٍ عالٍ، لكنه شعر كأنه في عالمٍ آخر. هؤلاء الرُّهبان ظلُّوا يعملون بصبرٍ وأناةٍ يومًا وراء يومٍ في جبالهم الموحِشة البعيدة على قوائمٍ من كلماتٍ بلا معنى. أما من حَدٍّ لحماقة البشر؟ لكن لا يجب أن يلوح ما يُفكِّر فيه على وجهه، فالعميل دائمًا على حق.
قال د. واجنر: «ليست هناك مشكلة في تعديل المارك 5 لطباعة هذا النوع من القوائم، لكن ما يُقلِقني حقًّا هو التأكُّد من أن الكومپيوتر سليم ويعمل كما ينبغي عندما يصلكم. تعرف أن إدخال أيَّ شيءٍ إلى التبت في هذه الأيام ليس سهلًا».
- «سنعمل على هذه الترتيبات. مكوِّنات الكومپيوتر صغيرة ويُمكن نقلها بالطيران. يُمكننا استلامها في الهند إذا استطعتم إرسالها إلى هناك».
- «وتريدون اثنين من مهندسينا؟».
- «نعم، طيلة الشهور الثلاثة التي سيَستَغرِقها العمل».
دَوَّن د. واجنر الملاحَظة ليُذكِّر نفسه بها، ثم قال: «لا مشكلة. هناك شيئان آخران».
قبل أن يتم عبارته، وجد اللاما يُناوِله قطعةً من الورق قائلًا: «هذا من بنكنا، ويحمل توقيع المدير كما ترى».
قال د. واجنر ناظرًا إلى الرقم على الشيك: «هذا... كافٍ تمامًا. السؤال الثاني قد يبدو غريبًا نوعًا، لكن أحيانًا ما نغفل عن الأشياء البسيطة... هل لديكم كهرباء؟».
- «نعم، لقد أحضرنا آلات لتوليد الكهرباء منذ خمسة أعوام تقريبًا، وتعمل بكفاءةٍ تامَّة. الكهرباء جعلت الحياة في الدَّيْر أكثر راحةً بكثير، لكن السبب الرئيس لشرائها بالطبع كان وجود محرِّكات لتشغيل عجلات الصلاة».
- «عجلات الصلاة، بالطبع. لماذا لم أفكِّر في هذا؟».

***

في البدء كان المنظر الذي يطلُّ عليه الدَّيْر يخطف الأنفاس حقًّا، لكن المرء يعتاد كلَّ شيءٍ حتى الملل إذا طال الوقت. بعد مرور ثلاثة أشهُرٍ كاملة، لم يَعُد چورچ هانلي يُلاحِظ الهاوية التي يَبلُغ عُمقها سبعمئة متر وتَفغُر فاها في الوادي عند السَّفح. كان واقفًا عند الصخور التي نعَّمَتها الرياح التي شُكِّل منها السور الواطئ المحيط بالمبنى الرئيس، ويَرمُق الجبال البعيدة بتعاسة، مُفَكِّرًا أنه لم يملك قَطُّ اهتمامًا يكفي لأن يتعلَّم أسماءها.
قال چورچ لنفسه إن هذا العمل أكثر شيءٍ مجنون حدثَ له على الإطلاق. منذ أسابيع والمارك 5 يطبع أوراقًا ملأى بكلامٍ فارغ. بصبرٍ لا تملكه إلا الآلات، وبلا نهاية، ظَلَّ الكومپيوتر يعيد ترتيب مصفوفات الحروف بجميع الطُّرُق الممكنة. وكلما خرجَت أفراخ الورق من الطابعات أخذَ الرُّهبان يَقُصُّونها بعنايةٍ ويضعونها في مجلَّدات عملاقة. حمدًا لله أن هذا لن يستمر أكثر من أسبوعٍ واحدٍ من الآن. كان چورچ يجهل لِمَ قرَّر الرُّهبان أنه ليس من الضروري تجربة متتالية حروف من إحدى عشرة خانة أو أكثر، لكن أسوأ مخاوفه أن يطرأ تغيير ما على الجدول الزمني المتَّفَق عليه، وأن يقول اللاما الأكبر (الذي أطلقَ عليه وزميله تشاك اسم سام، لأنه أسهل من اسمه الحقيقي) فجأةً إن العمل سيستمر حتى سنة 2060 مثلًا.
سمع چورچ صوت الباب الخشبي الثقيل يُفتَح مع خروج تشاك لينضمَّ إليه عند السور. كالعادة، كان تشاك يُدخِّن واحدةً من السجائر التي جعلَته مفضَّلًا الرُّهبان، الذين يجنحون للاستمتاع بمُتَع الحياة المتواضِعة، وهذا شيء يستحق الامتنان بطبيعة الحال. من المؤكَّد أنهم مجانين، لكن هذا لا يحول بينهم وبين الاستمتاع بوقتهم في الآن ذاته.
قال تشاك: «اسمع، هناك شيء ما عرفته سيؤدِّي إلى مشكلةٍ كبيرة».
- «ماذا حدث؟ هل هناك خلل في الكومپيوتر؟».
كان هذا أسوأ احتمال يُمكن أن يتخيَّله چورچ. قد تتأجَّل عودته، وليس هناك ما هو ألعن من هذا. وجد نفسه يتمنَّى بيأسٍ أن يعود إلى وطنه أخيرًا.
جلسَ تشاك على السُّور المُنخَفِض، الأمر غير المعتاد لأنه مرعوب دائمًا من الهاوية أسفله، وقال: «ليس شيئًا من هذا. اسمع، لقد عرفت السَّبب وراء كلِّ ما يفعلونه».
- «ماذا تعني؟ حسبتنا نَعرِف بالفعل».
- «نَعرِف ما يحاول الرُّهبان فعله، لكننا لا نعرف الدافع... والدافع يا صديقي مجنون فعلًا».
غمغم چورچ بسخط: «قُل لي شيئًا لا أعرفه».
- «... لكن سام العجوز أخبرَني بالسَّبب منذ قليل. لقد بدأ يَشعُر بالحماسة مؤخَّرًا مع اقترابنا من الانتهاء من القائمة. إنهم يؤمنون بأنهم إذا سردوا أسماء الله جميعًا -وهُم يعتقدون أن لديه تسعة بلايين اسم- فإن غرض الله من خَلْقِ العالم سينتهي. لن يعود هناك المزيد مما يُمكن أن يفعله البشر، ولن يعود هناك سبب لاستمرارهم».
- «وماذا ينتظرون منا؟ أن نَنتَحِر جميعًا؟».
- «يقول إنه ليست هناك حاجة إلى ذلك. عندما تنتهي القائمة، سيتدخَّل الله بنفسه ويُنهي كلَّ شيء... بانج!».
- «فهمتُ. إذن سينتهي العالم مع انتهائنا من العمل».
أطلقَ تشاك ضحكة عصبيَّة قصيرة، وقال: «هذا ما قلته لسام بالضبط، فهل تعرف ماذا حدث؟ نظر لي بطريقةٍ غريبةٍ تمامًا، وقال: ليس الأمر بالبساطة التي تحسبها».
أطرق چورچ مفكِّرًا قليلًا، ثم قال: «هذا ما أُطلِق عليه اسم النَّظر إلى الصورة الشاملة. لكن ماذا تقترح أن نفعل؟ لا أرى أن هذا يصنع فارقًا بالنسبة لنا. إننا نَعرِف أنهم مخبولون من البداية».
- «نعم، لكن ألا ترى ما قد يَحدُث؟ عندما تنتهي القائمة ولا ينتهي العالم -أو أيًّا كان ما يتوقَّعونه- فقد نجد نفسينا في ورطة. إنهم يستخدمون كومپيوترنا نحن. هذا لا يروق لي على الإطلاق».
قال چورچ ببطء: «أعرِفُ ما تعنيه. لكن أشياءَ شبيهة حدثَت كثيرًا من قبل. في طفولتي في لويزيانا كان هناك قِسٌّ قال إن العالم سينتهي يوم الأحد القادم، وصدَّقه المئات، ومنهم من باعَ بيته وأملاكه. لكن عندما لم يَحدُث شيء، لم يَشعُروا بالغضب كما لك أن تتوقَّع، بل قرَّروا فقط أن التوقيت كان خطأ، واستمرُّوا على إيمانهم».
- «لسنا في لويزيانا إذا كنت لم تُلاحِظ. إننا اثنان فقط وهناك المئات منهم. إنني أُحِبُّهم، وأشعرُ بالأسف من أجل سام المسكين عندما يَكتَشِف أن عمل عمره كان من أجل لا شيء، لكني ما زلتُ أتمنَّى أن نكون في مكانٍ آخَر».
- «أنا نفسي أتمنَّى هذا منذ أسابيع، لكن ليس بوسعنا شيء حتى ينتهي العمل وتأتي الطائرة لتحملنا».
قال تشاك مفكِّرًا: «من الممكن دائمًا التلاعُب بالكومپيوتر».
- «مستحيل! سيزيد هذا الأمور سوءًا».
- «لا أعني تعطيله. سينتهي من عمله بعد أربعة أيام من الآن، والطائرة ستأتي بعد أسبوع. حسن، كل ما علينا فِعله هو أن نجد مشكلة صغيرة أثناء الفحص الروتيني. سنصلحها بالطبع، لكن ليس بسرعة. إذا حسبنا الوقت جيدًا، سنكون في المطار مع خروج آخِر اسمٍ من الطابعة، ولن يلحقوا بنا عندها».
قال چورچ: «لا يروقني هذا كثيرًا. ستكون أول مرَّةٍ أتخلَّى فيها عن عمل، وقد تنتابهم الرَّيبة فينا. لا، لننتظر ونرى ما سيَحدُث».

***

- «وما زال لا يروقني»، قالها بعد سبعة أيام وخيول الجبال القويَّة تحملهما على الطريق المنحدِر. «ولا تحسب أني هربتُ لأني خائف. إنني أشعرُ بالأسف فقط على هؤلاء المساكين، ولا أريدُ أن أكون حاضرًا عندما يكتشفون مدى حماقتهم. أتساءَلُ كيف سيكون شعور سام».
قال تشاك: «عندما ودَّعته راودني إحساس بأنه يَعرِف أننا سنهرب منهم، لكنه لم يبالِ لأنه يَعرِف أن الكومپيوتر يعمل بكفاءة، وأنه سينتهي من عمله عمَّا قريب. وبعد ذلك... ليس هناك ”بعد ذلك“ بالنِّسبة له على ما أعتقد».
التفتَ چورچ رامقًا الطريق الجبلي المرتفِع. كانت هذه آخِر بُقعةٍ يُمكنك أن تُلقي منها نظرةً واضحةً على الدَّيْر في الأعلى، مبانيه المربَّعة الصغيرة مُظْلِمَةٌ تحت سماء المساء، وفي بعض النوافذ ترى الأنوار مشتعلة. تساءَل عما سيَحدُث عندما تنتهي القائمة. هل سيُحطِّم الرُّهبان الكومپيوتر من فرط الغضب وخيبة الأمل؟ هل سيجلسون في هدوء ويُفكِّرون في المشكلة؟
كان يَعرِف ما يَحدُث هناك في الأعلى في هذه اللحظة بالذات. اللاما الأعظم يجلس مع مساعديه يُطالِعون أفراخ الورق الطويلة التي يحملها الرُّهبان الأصغر سنًّا من الطابعات ويضعونها في المجلَّدات. لا أحد يتكلَّم، والصوت الوحيد في المكان هو صوت الطابعات الصَّاخب اللا نهائي، بينما يقوم الكومپيوتر نفسه بعمله في صمت.
خطرَ لچورچ أن ثلاثة شهور من هذا الروتين كفيلة بإثارة جنون أيِّ أحد.
هتفَ تشاك فجأةً وهو يتطلَّع نحو الوادي: «ها هي ذي! أليس منظرًا جميلًا؟».
كان المنظر جميلًا بالفِعل في رأي چورچ. الطائرة الصغيرة كانت رابضةً في طرف المطار الصغير كصليبٍ فِضِّي، وخلال ساعتين ستحملهما في رحلة العودة إلى العالم الحقيقي، العالم المنطقي، وهذه فكرة مريحة للغاية.
يَحِلُّ الليل سريعًا في جبال الهيمالايا، والظُّلمة كانت قد هبطت بالفعل.
لحُسن الحظ أن الطريق بلا عوائق أو أخطار، لكن البرد شديد. السماء صافية تمامًا والنجوم لامعة، ولا مشاكل في الإقلاع لأن الجو صحو.
بدأ يُغَنِّي، لكنه توقَّف بعد قليل عندما وجدَ صوته شيئًا ضئيلًا ضائعًا بين هذه الجبال العظيمة الصَّامتة التي تلتمع كالأشباح على كلِّ جانِب. استمرَّت الرحلة في هدوء، ثم ألقى چورچ نظرةً على ساعته، وقال ناظرًا إلى تشاك من وراء كتفه: «سنصل خلال ساعة».
ثم تذكَّر شيئًا وأضاف: «أتساءَلُ إن كان الكومپيوتر قد انتهى من القائمة».
لم يُجِب تشاك، فأدار رأسه ناظرًا إليه، ليرى الشحوب الذي كسى وجهه وهو يرفع رأسه إلى السماء.
همسَ تشاك: «انظر»، ورفعَ چورچ رأسه بدوره.
(ثمَّة مرَّة أخيرة لكلِّ شيء).
كانت النجوم، ودون أيِّ جلبة، تنطفئ واحدًا تلو الآخر.

------

من مجموعة The Nine Billion Names of God.

مقتطف من ترجمة غير منشورة لـ«سيِّد الخواتم»

چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم» واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي، الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في ا...