الثلاثاء، 20 أغسطس 2019

مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»

الكتاب الخامس من «أغنية الجليد والنار»
نهاية العام، عن دار التنوير
ترجمة: هشام فهمي


مرَّ نِصف الصَّباح قبل أن يظهر اللورد چانوس ملبِّيًا الأمر. كان چون يُنظِّف سيفه (المخلب الطَّويل)، وهو العمل الذي عادةً ما يُكلَّف به وكيل أو مُرافق، لكن اللورد إدارد علَّم أبناءه العناية بأسلحتهم بأنفُسهم. حين وصلَ كِجز وإد الكئيب مع سلينت شكرَهما چون ودعا اللورد چانوس إلى الجلوس.
وقد جلسَ، ولكن بفظاظة، عاقدًا ذراعيه على صدره وعابسًا ومتجاهلًا الفولاذ المجرَّد في يد قائده. مرَّر چون قطعة القُماش المزيَّتة على نصل سيفه النَّغل[1] مشاهدًا ضوء الصَّباح يتلاعَب على التَّموُّجات في قلب الفولاذ، ومفكِّرًا في السُّهولة التي يُمكن أن يشقَّ بها النَّصل جِلد وشحم وأوتار سلينت ليفصل رأسه القبيح عن بدنه. عندما ينخرط الرَّجل في حَرس اللَّيل تُغفَر جرائمه كلُّها ويتخلَّى عن ولاءاته جميعها، إلَّا أن چون يجد التَّفكير في چانوس سلينت باعتباره أخًا عسيرًا. إن بيننا دم. هذا الرَّجل ساعدَ على قتل أبي وبذلَ قصارى جهده لقتلي أيضًا.
دسَّ چون سيفه في غِمده قائلًا: «لورد چانوس، إنني أولِّيك القيادة في (الحارس الرَّمادي)».
باغتَ قوله سلينت الذي ردَّ: «(الحارس الرَّمادي)... (الحارس الرَّمادي) هو المكان الذي تسلَّقت (الجِدار) عنده مع أصدقائك الهَمج...».
- «نعم. لا أنكرُ أن القلعة في حالةٍ مؤسفة، لكنك ستُجدِّدها وتُرمِّمها قدر استطاعتك. ابدأ بقطع أشجار الغابة، وخُذ الحجارة من المباني التي سقطَت لإصلاح تلك التي لا تزال قائمةً». كان ليُضيف: سيكون العمل شاقًّا للغاية. ستنام على الحجر، أكثر إرهاقًا من أن تشكو أو تتآمَر، وسرعان ما ستنسى معنى الدِّفء، ولكن قد تتذكَّر معنى أن تكون رجلًا. «سيكون معك ثلاثون رجلًا، عشرة من هنا وعشرة من (بُرج الظِّلال) وعشرة أعارَنا إياهم الملك ستانيس».
اصطبغَ وجه سلينت بلون البرقوق المجفَّف، وبدأ لُغده اللَّحيم يرتجف وهو يقول: «أتحسبني لا أرى ما تفعله؟ چانوس سلينت ليس بالرَّجل الذي ينخدِع بسهولة. لقد كُلِّفتُ بالدِّفاع عن (كينجز لاندنج) وأنت لا تزال تبول في قِماطك. احتفظ بأطلالك أيها النَّغل».
إنني أعطيك فُرصةً يا سيِّدي، وهذا أكثر مما أعطيت أبي. «أسأت فهمي يا سيِّدي. هذا أمر لا طلب. المسافة إلى (الحارس الرَّمادي) أربعون فرسخًا. احزم أسلحتك ودرعك وودِّع أصدقاءك واستعدَّ للرَّحيل مع مطلع الفَجر غدًا».
قال اللورد چانوس: «لا»، وهبَّ واقفًا مسقطًا مقعده إلى الوراء، وتابعَ: «لن أذهب ذليلًا لأتجمَّد وأموت. لا نغل ابن خائن يُملي الأوامر على چانوس سلينت! أحذِّرك، إنني لستُ عديم الأصدقاء، هنا وفي (كينجز لاندنج) أيضًا. لقد كنتُ سيِّد (هارنهال)! أعطِ أطلالك لأحد الحمقى العميان الذين صوَّتوا لك، أمَّا أنا فلن أسمح لك. هل تسمعنى أيها الصَّبي؟ لن أسمح لك!».
- «ستفعل».
لم يُحاوِل سلينت مجرَّد الرَّد، لكنه ركلَ المقعد إلى الجانب في طريقه وهو خارج.
ما زالَ يراني صبيًّا، صبيًّا أخضر تُرهِبه الكلمات الغاضبة. ليس بوسعه إلَّا أن يأمل أن ينام اللورد چانوس اللَّيلة ويصحو ثائبًا إلى رُشده.
لكن الصَّباح التَّالي أثبتَ له أن أمله كان عبثًا.
وجدَ چون سلينت يتناوَل فطوره في القاعة العامَّة ومعه السير أليسر ثورن وعدد كبير من أنصارهما. كانوا يضحكون على شيءٍ ما عندما نزلَ چون السَّلالم مع إميت الحديدي وإد الكئيب، ووراءهم مولي والجواد وچاك كراب الأحمر ورستي فلاورز وأوين الجحش. كان هوب ذو الثَّلاثة أصابع يغرف الثَّريد من قِدره، وقد جلسَ رجال الملكة ورجال الملك والإخوة السُّود إلى موائدهم يأكلون من أوعية الثَّريد أو يملأون بطونهم بالخُبز المحمَّر واللَّحم المقدَّد. رأى چون پيپ وجرِن جالسيْن إلى مائدةٍ وباون مارش إلى أخرى، وشمَّ في الهواء رائحة الدُّخان والشَّحم، وسمعَ أصداء جلبة السَّكاكين والملاعق تتردَّد على السَّقف المقنطَر.
همدَت الأصوات جميعًا في الحال، وقال چون: «لورد سلينت، سأعطيك فُرصةً أخيرةً. ضَع هذه الملعقة واذهب إلى الاسطبلات. لقد أمرتهم بتجهيز حصانك بالسَّرج واللِّجام. الطَّريق إلى (الحارس الرَّمادي) طويل وعر».
ردَّ سلينت: «عليك بالذَّهاب إذن أيها الصَّبي»، وضحكَ مسقطًا الثَّريد على صدره، قبل أن يُردِف: «أظنُّ أن (الحارس الرَّمادي) مكان ملائم لأمثالك، بعيدًا عن القوم الأتقياء الصَّالحين. إن علامة الوحش عليك أيها النَّغل».
- «هل تَرفُض طاعة أمري؟».
قال سلينت ولُغده يرتجف: «يُمكنك أن تدسَّ أمرك في مؤخِّرتك أيها النَّغل».
ارتسمَت بسمة رفيعة على شفتَي أليسر ثورن وركَّز عينيه السَّوداوين على چون، في حين بدأ جودري قاتِل العمالقة الجالس إلى مائدةٍ أخرى يضحك.
قال چون: «كما تُريد»، وأومأَ برأسه لإميت الحديدي قائلًا: «من فضلك خُذ اللورد چانوس إلى (الجِدار)...».
... واحبسه في زنزانةٍ جليديَّة. كان ليقول هذا، فلا شكَّ لديه في أن يومًا أو عشرةً من الحبس داخل الجليد كفيلة بترك سلينت مرتجفًا محمومًا يتوسَّل إطلاق سراحه. وما إن يَخرُج سيبدأ هو وثورن التَّآمُر من جديد.
... وقيِّده إلى حصانه. كان ليقول هذا أيضًا، فإذا كان سلينت لا يرغب في الذَّهاب إلى (الحارس الرَّمادي) كقائدها فليذهب كطبَّاخها. وعندئذٍ ستكون مسألة وقتٍ قبل أن يتهرَّب. وكم رجلًا سيأخذ معه وقتها؟
وهكذا أنهى چون عبارته: «... واشنُقه».
وغاضَت الدِّماء من وجه چانوس سلينت حتى حاكى لون الحليب وسقطَت الملعقة من بين أصابعه.
قطعَ إد وإميت القاعة بخُطواتٍ رنَّت على أرضيَّتها الحجريَّة، وانفتحَ فم باون مارش وانغلقَ دون أن تَخرُج منه كلمة، ومدَّ السير أليسر ثورن يده إلى مقبض سيفه، ففكَّر چون الذي علَّق مخلبه الطَّويل على ظَهره: هلمَّ، جرِّد فولاذك، أعطِني سببًا لأفعل المِثل.
 نهضَ نِصف من في القاعة من رجال، الفُرسان والجنود الجنوبيُّون، المُخلصون للملك ستانيس أو المرأة الحمراء أو الاثنين، وإخوان حَرس اللَّيل المحلَّفون. بعضهم اختارَ چون قائدًا، وبعضهم صوَّت لباون مارش أو السير دينس ماليستر أو كوتر پايك... وبعضهم لچانوس سلينت. مئات منهم كما أذكرُ. تساءلَ چون كم من هؤلاء الرِّجال في القبو الآن، وللحظةٍ تراقصَ العالم على حافة سيف.
ثم رفعَ أليسر ثورن يده عن سيفه وأفسحَ الطَّريق لإد توليت.
قبضَ إد الكئيب على ذراع سلينت وإميت الحديدي على الثَّانية، ومعًا سحباه من على الدِّكَّة، ومحتجًّا صاحَ اللورد چانوس والثَّريد يتناثَر من بين شفتيه: «لا، لا، اترُكاني. إنه مجرَّد صبي، إنه نغل! أبوه كان خائنًا. علامة الوحش عليه، ذئبه هذا... اترُكاني! ستندمان على اليوم الذي وضعتما فيه يدًا على چانوس سلينت. إن لي أصدقاء في (كينجز لاندنج). أحذِّركما...»، وظلَّ يعترض وهما يصعدان به على السَّلالم بحركةٍ هي تارة جرٌّ وتارة دفْع.
تبعَهم چون إلى الخارج، ومن ورائه فرغَ القبو من شاغليه. عند القفص تملَّص سلينت لحظةً وحاولَ أن يُحوِّل الأمر إلى قتال، لكن إميت أمسكَه من عُنقه وضربَ به القضبان الحديد إلى أن أمسكَ عن المقاوَمة، وعندئذٍ كانت (القلعة السَّوداء) كلُّها خرجَت تتفرَّج، حتى ڤال في نافذتها وقد تدلَّت ضفيرتها الذَّهبيَّة من على كتفها، وستانيس الذي وقفَ على درجات (بُرج الملك) محاطًا بفُرسانه.
سمعوا اللورد چانوس يقول: «إذا كان الصَّبي يحسب أنه سيُخيفني فهو مخطئ. لن يجرؤ على شنقي. چانوس سلينت له أصدقاء، أصدقاء مهمُّون، سترون...»، وذرَت الرِّيح بقيَّة عبارته.
فكَّر چون: هذا خطأ، ثم قال: «توقَّف».
التفتَ إليه إميت مقطِّبًا وجهه، وغمغمَ: «سيِّدي؟».
قال چون: «لن أشنقه. أحضِره إلى هنا».
وسمعَ باون مارش يصيح: «أوه، بحقِّ الآلهة».
حملَت الابتسامة التي ابتسمَها اللورد چانوس سلينت لحظتها كلَّ ما في الزُّبدة الفاسدة من حلاوة... إلى أن أضافَ چون: «إد، اجلب لي قُرمةً»، واستلَّ مخلبه الطَّويل.
لدى عثور إد على قُرمةٍ مناسبة كان اللورد چانوس قد تراجعَ إلى داخل القفص من جديد، لكن إميت الحديدي دخلَ وراءه وسحبَه إلى الخارج، وفيما جرَّه إميت ودفعَه عبر السَّاحة صاحَ سلينت: «لا. اترُكني... لا يُمكنك... حين يسمع تايوين لانستر بهذا ستندمو...».
ركلَ إميت ساقيه من تحته، ثم ثبَّت إد الكئيب قدمه على ظَهره ليُبقيه على رُكبتيه فيما دفعَ إميت القُرمة تحت رأسه، وقال له چون سنو: «سيكون الأمر أسهل إذا بقيت ساكنًا. تحرَّك لتفادي الضَّربة وستموت أيضًا، لكن ميتتك ستكون أقبح. مدَّ عُنقك يا سيِّدي». تلاعبَ ضوء الصَّباح الشَّاحب على نصله إذ أحكمَ چون كلتا يديه على مقبض سيفه النَّغل ورفعَه عاليًا، قبل أن يقول متوقِّعًا سبَّةً أخيرةً: «إذا كانت لديك كلمات أخيرة فالآن الوقت المناسب لقولها».
لوى چانوس سلينت رقبته ليَنظُر إليه قائلًا: «أرجوك يا سيِّدي، الرَّحمة. سـ... سأذهبُ، سأذهبُ، سـ...».
قال چون في نفسه: لا، لقد أغلقت ذلك الباب، وهوى مخلبه الطَّويل.
وسألَ أوين الجحش ورأس چانوس سلينت يتدحرَج على الأرض الموحلة: «هل يُمكنني أن آخذ حذاءه؟ إنه جديد تقريبًا، ومبطَّن بالفرو».
ألقى چون نظرةً إلى الوراء نحو ستانيس، وللحظةٍ التقَت أعيُنهما، ثم أومأَ الملك برأسه وعادَ يَدخُل بُرجه.


[1] السَّيف النَّغل مصطلح يُطلَق في عالمَي الواقع والرِّواية على السَّيف الذي يقع حجمه بين السَّيف الطَّويل والسَّيف العظيم الذي يُحمَل باليدين، ويُطلَق عليه أيضًا «يد ونصف». يُلاحَظ أن (المخلب الطَّويل) أقرب إلى السَّيف العظيم، لكنه يُحمَل بيدٍ واحدة. (المُترجم).

الثلاثاء، 13 أغسطس 2019

عندما يكون أكثر من يُضحِكنا أشدَّنا حُزنًا


بقلم چيم نورتون، الكوميديان والكاتب الأكثر مبيعًا على قائمة New York Times، ومُقدِّم برنامج The Jim Norton Show


دائمًا ينتابني إحساسٌ قويٌّ بالضياع عندما يُنهي واحدٌ من الرِّفاق مدمني المخدِّرات أو الكحول حياته، ربما لأن هذه الفِكرة لازَمَتني كهَوَسٍ دائمٍ لسنوات، ولأنني قطعتُ شراييني عِدَّة مرَّات، إلى أن اُجبِرتُ على دخول مصحَّة لإعادة التأهيل والإقلاع عن المخدِّرات في سِنِّ الثامنة عشرة.
لن يعرف أحد أبدًا ما الذي كان روبن ويليامز يُفكِّر فيه بالضبط عندما اتَّخذ قرار إنهاء الألم الذي عاناه بتلك الطريقة، لكنني أعرف أنه لم يكن يرى نفسه كما رآه بقيَّتنا.
التقيتُ روبن ويليامز للمرَّة الأولى سنة 1998، عندما جاء إلى نيويورك سيتي كضيف شرفٍ في Comedy Cellar. ثمَّة نزعة لدى الكوميديانات تجعل إثارة إعجابهم بعملٍ كوميديٍّ ما شيئًا مستحيلًا، ويحبُّون توكيد هذه النقطة بشِدَّة عندما يُقدِّم كوميديانات آخرون أكبر قيمةً وأكثر شُهرةً منهم فقراتٍ أمامهم. على أنني لاحظتُ في تلك الليلة بالذات أن لا أحد من الكوميديانات الحاضرين غادَر بعد أن فرغ روبن من فقرته. تحجَّج كلٌّ منا بشيءٍ ما كي يبقى، ولا أحد منا أراد الاعتراف بهذا، لكن روبن ويليامز كان يؤدِّي فقرته، وشعرنا كلنا بإثارةٍ شديدة أجبرتنا على البقاء ومُشاهَدته.
في موقفٍ كهذا كانت أي مجموعةٍ أخرى من الكوميديانات لتقف منتظرةً إياه في الخارج حاملةً رايات الترحيب، لكن الكوميديانات عبارة -في الحقيقة- عن مجموعةٍ من الحمقى تُحبِّذ الجلوس في الخلفيَّة بقلوبٍ تنبض يسرعة وأذرُعٍ معقودة على الصدور وملامح تتظاهَر بعدم الاهتمام. ليلتها كان أكثر ما أثار انتباهي بخصوص روبن اهتمامه البالغ بأن يُعجِب الكوميديانات الآخرين، وفي تلك الليلة -والليالي الأخرى المشابِهة التي تلتها على مرِّ الأعوام- كان يأتي دائمًا للجلوس معنا إلى مائدة الكوميديانات (التي اشتهرت في مسلسل Louie).
كان يتسيَّد الحوار بسهولة، وكلنا يعرف الفرق بين من يكون ومن نكون، إذ كان روبن واحدًا من هؤلاء الكوميديانات القلائل الأكبر من الحياة، الذين بإمكانهم بمنتهى البساطة أن يجلسوا مع عددٍ من الكوميديانات الآخرين ويُجبرِونهم على الإصغاء إليهم. لكنه لم يكن يفعل هذا بالضبط، بل يتبادل الدُّعابات والضَّحكات معنا ويتعامل بمنتهى التواضُع، وربنا لم يعرف قَطُّ كم أحببناه لهذا السَّبب.
لا شكَّ على الإطلاق في أن روبن خاض صراعًا مع الاكتئاب والإدمان على مدى أعوامٍ طويلة، وعن نفسي أعرف كوميديانات كثيرين يصارعون بدورهم شياطين كراهية النَّفس وتدمير الذَّات. ومع أن أيام تدميري لذاتي قد انتهت عندما أقلعتُ عن المخدَّرات، فإن فكرة الانتحار ظلَّت عالقة أمامي طوال الوقت، كأنها خيار أخير موضوع وراء حاجزٍ من الزجاج يمكنني أن أكسره في حالة الطوارئ، وقد سحرتني فكرة أن أختار مَخرَجي من هذا العالم بنفسي.
لكن عندما جاء اليوم الذي انتحر فيه روبن، وجدتُ الفكرة مُزعِجة وغير ضروريَّة على الإطلاق؛ لا تحمل أيَّ نوعٍ من الانتصار أو السِّحر، بل حملت كلَّ الحُزن والخواء والنَّقص.
إن أكثر من أعرفهم طرافةً يبدون لي أكثر أناسٍ محاطين بالظلام، ولعل هذا هو السبب وراء كونهم الأكثر طرافة... كلما كانت الحُفرة أعمق كان عليك أن تتحلَّى بحِسِّ الدُّعابة كي تحفر لنفسك طريق الخروج.
تطوَّرت الكوميديا عبر الزمن من السقوط بالمقاعد وإلقاء كعكة في وجه أحدهم إلى نواحٍ أخرى أكثر خصوصيَّة وواقعيَّة مع مجيء أمثال لني بروس وريتشارد پرايور وچورچ كارلن، وبدأ الجمهور يرى -من خلال الملاحظات العبقريَة حقًّا التي تُلقَى والصراع على الملأ مع الشياطين الشخصيَّة- أن أكثر من يُضحكونه هُم أقل من يستمتعون بالحياة. قد تُخفي تلك النِّكات والدُّعابات وراءها شيئًا أكثر كآبة، وهكذا بدأت الشقوق تظهر في القناع.
وفي 28 يناير 1977 أزال فريدي پرينز هذا القناع تمامًا وإلى الأبد عندما أطلَق النار على نفسه.
وطوال الخمسة وعشرين عامًا التي مارستُ فيها الكوميديا، عرفتُ ثمانية كوميديانات على الأقل انتحروا.
منذ سنواتٍ قال لي أحدهم إن واحدةً من أكثر السِّمات التي لا تجدها لدى البشر هي مقدرتهم على رؤية أنفسهم كما يراهم الآخرون، وهذا هو ما أفكِّر فيه عادةً عندما يتصرَّف أحدهم بوقاحةٍ دون أن يدري، أو عندما يتعامل أحد كأنه أذكى مما هو عليه في الحقيقة.
كان لديَّ وروبن مديرو الأعمال أنفسهم طوال السنوات العشر الماضية، وقد جاء أحدهم ذات مرَّة ببيلي كريستال ليُشاهِده كمفاجأةٍ في الليلة التي كنت أصوِّر فيها فقرة خاصَّة لبرنامج Jimmy Kimmel. كانت فقرتي تقليديَّة، لكن روبن عاملني كأنني أطحتُ به تمامًا أمام الجمهور!
عندما جاء أبي وأمي للقائي بعد تقديمي فقرةً في أتلانتك سيتي، أصرَّ روبن على قضاء بعض الوقت معهما ليقول أشياء جميلة جدًّا عني، وقد كان حريًّا بغروري الشخصي أن يُصدِّق أنني بهذه الروعة فعلًا، لكن الحقيقة أن روبن كان بالذكاء الكافي ليعرف كم سيعني لوالدَي أن يسمعاه يقول تلك الأشياء العظيمة عن ابنهما.
وقد عنى هذا الكثير بحق...
ببساطة، مستحيل أن روبن أدرك الطريقة التي كنا نراه بها. ببساطة، ليس من الممكن أنه فهم قدر الاحترام والحُب الذي حمله الكوميدانات الآخرون له.
أو أنني آملُ هذا على الأقل...
لأن من المُحزِن حقًّا أن تُفكِّر أنه كان يُدرِك هذا فعلًا، لكنه لم يعُد يكفي.

الخميس، 8 أغسطس 2019

مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»


الكتاب الخامس من «أغنية الجليد والنار»
نهاية العام، عن دار التنوير
ترجمة: هشام فهمي


رفضَ النَّوم أن يأتي، وما كان يُمكن أن يأتي، وبدلًا منه كانت الرِّيح والبرد القارس ونور القمر على الثَّلج... والنَّار. لقد عادَ إلى داخل سَمر على بُعد فراسخ عديدة، واللَّيل يعبق برائحة الدَّم القويَّة. فرائس، وليست بعيدةً. سيكون اللَّحم دافئًا. سالَ اللُّعاب من بين أسنانه إذ استيقظَ الجوع في أحشائه. ليست إلكةً، ليست غزالًا، ليست هذه.
تحرَّك الذِّئب الرَّهيب صوب اللَّحم، ظلٌّ رماديٌّ هزيل ينسلُّ من شجرةٍ إلى أخرى عبر بِركٍ من نور القمر وفوق تباب الثَّلج. هبَّت الرِّيح حوله مبدِّلةً اتِّجاهها، ففقدَ الرَّائحة ثم عثرَ عليها قبل أن يفقدها من جديد، وبينما يبحث عنها مرَّةً أخرى جعلَه صوت بعيد يُرهِف أُذنيه.
علمَ في الحال أنه صوت ذئب، وقد تقدَّم سَمر نحوه بحذرٍ الآن، وسرعان ما عادَت رائحة الدَّم، وإن اختلطَت بها روائح أخرى هذه المرَّة، روائح بول وجلود ميتة وخراء طيور وريش، وذئب، وذئب، وذئب. قطيع. عليه أن يُقاتِل من أجل الظَّفر بلحمه هذا.
الذِّئاب أيضًا شعرَت بوجوده، وراقبَته إذ خرجَ من ظُلمة الأشجار إلى الأرض الفضاء الدَّامية. كانت الأنثى تلوك فردة حذاءٍ جِلد ما زالَ فيها نِصف ساق، لكنها تركَتها تَسقُط مع اقترابه، أمَّا قائد القطيع، وهو ذكر عجوز له خطم أبيض وعين عمياء، فقد تقدَّم يُقابِله مزمجرًا وكاشفًا أسنانه، ووراءه كشَّر ذكر أصغر عن أنيابه هو الآخَر.
تشرَّبت عينا الذِّئب الرَّهيب الصَّفراوان الباهتتان المناظر المحيطة، من المصارين الملتفَّة على شُجيرة، إلى البُخار المتصاعد من بطنٍ مبقور حاملًا رائحة الدَّم واللَّحم الغنيَّة، إلى رأسٍ يُحدِّق بلا بصرٍ إلى القمر الهلال وقد مُزِّقَت الوجنتان حتى العظم وصارَت العينان حُفرتين غائرتين وانتهى العُنق بجَدعةٍ مهترئة.
إلى بِركة من الدِّماء المتجمِّدة تلتمع بالأسود والأحمر.
بَشر. ملأَت رائحتهم الزَّنخة العالم. في حياتهم كانوا بعدد أصابع كفِّ الإنسان، لكنهم الآن صِفر. ماتوا، انتهوا، لحم. من قبل كانوا يرتدون المعاطف والقلنسوات، لكن الذِّئاب مزَّقت ثيابهم إربًا إربًا في هياجها سعيًا إلى اللَّحم، ومن لا تزال لهم وجوه يُغطِّي لحاهم الجليد والمُخاط المتجمِّد، وقد بدأ الثَّلج المتساقط يدفن ما تبقَّى منهم، يبدو في غاية الشُّحوب مقارنةً بسواد معاطفهم وسراويلهم الرثَّة. أسود.
وعلى بُعد فراسخ عديدة تململَ الصَّبي باضطراب.
أسود، حَرس اللَّيل، كانوا من حَرس اللَّيل.
على أن الذِّئب الرَّهيب لم يُبالِ. إنه لحم، وهو جائع.
برقَت أعيُن الذِّئاب الثَّلاثة بالأصفر، وطوَّح الذِّئب الرَّهيب رأسه من جانبٍ إلى جانبٍ بمنخرين اتَّسعا، ثم كشَّر عن أنيابه زائمًا. تراجعَ الذَّكر الأصغر، وشمَّ الذِّئب الرَّهيب رائحة الخوف فيه. الذَّيل. لكن الذِّئب الأعور أجابَه بزمجرةٍ وتقدَّم يصدُّ تقدُّمه. الرَّأس، ولا يخشاني مع أنني في ضِعف حجمه.
التقَت أعيُنهما.
وارْج!
ثم انقضَّ الاثنان، الذِّئب والذِّئب الرَّهيب، ولم يَعُد هناك وقت للتَّفكير. اختُصِرَ العالم في الأسنان والمخالب والثَّلج المتطاير حولهما وهما يتدحرجان ويدوران ويُحاوِل كلاهما نهش الآخَر، في حين راحَ الذِّئبان المتبقِّيان يزومان ويُزَمجِران حولهما. انغلقَ فكَّاه على فروٍ أشعث جعلَه الصَّقيع زلقًا، وعلى قائمةٍ رفيعة كعصا جافَّة، لكن الذِّئب الأعور خمشَ بطنه وحرَّر نفسه، ثم تدحرجَ وعادَ ينقضُّ. انغلقَت أنياب صفراء حول عُنقه، لكنه نفضَ ابن عمومته الأشهب العجوز عنه كأنما ينفض جرذًا، ثم انقضَّ عليه وأسقطَه. بين دحرجةٍ وعضٍّ وركلٍ تقاتَلا، إلى أن تقطَّعت أنفاسهما وتساقطَت الدِّماء على الثَّلج حولهما، لكن في النِّهاية استلقى الذِّئب الأعور العجوز وكشفَ بطنه، فنهشَ الذِّئب الرَّهيب الهواء في وجهه مرَّتين، ثم تشمَّم مؤخِّرته ورفعَ ساقًا فوقه.
وبعد بضع نهشاتٍ وزمجرة إنذار رضخَت الأنثى والذَّيل بدورهما، وأصبحَ القطيع له.
والفرائس أيضًا. تنقَّل من رجلٍ إلى رجلٍ يتشمَّم قبل أن يستقرَّ على أكبرهم حجمًا، شيء بلا وجهٍ يقبض بيده على قطعةٍ من الحديد الأسود، وقد غابَت يده الأخرى المقطوعة عند المعصم ورُبِطَت جَدعتها بالجِلد. من الشَّقِّ في حَلقه سالَ الدَّم ثخينًا ثقيلًا، وراحَ الذِّئب يَلِغ فيه بلسانه، ولعقَ خراب الأنف والوجنتين في الوجه الذي ما عادَت له عينان، قبل أن يدفن خطمه في العُنق ويُمزِّقه ويزدرد قطعةً من اللَّحم الجميل، لحم لم يَذُق في حلاوته مثيلًا.
 حين فرغَ من هذه انتقلَ إلى جثَّة الرَّجل التَّالي والتهمَ أفضل القِطع منها، ومن فوق الأشجار راقبَته الغِدفان الجاثمة بصمتٍ وأعيُنٍ سوداء على الفروع والثَّلج يَسقُط من حولها. تدبَّرت الذِّئاب الأخرى أمرها بفُضالته، فأكلَ الذَّكر العجوز أولًا، ثم الأنثى، ثم الذَّيل. إنهم له الآن، إنهم قطيعه.
همسَ الصَّبي: لا، إن لنا قطيعًا آخَر. ليدي ماتَت، وربما جراي ويند أيضًا، لكن في مكانٍ ما شاجيدوج ونايميريا وجوست أحياء. هل تَذكُر جوست؟
بدأت الثُّلوج والذِّئاب ووليمتها تبهت، وضربَ الدِّفء وجهه باثًّا فيه الرَّاحة كقُبلات أُم. نار، دُخان. اختلجَ أنفه على إثر رائحة اللَّحم المشوي التي ملأَته، ثم انسحبَت الغابة ووجدَ نفسه في القاعة الطَّويلة من جديد، في جسده المكسور يَنظُر إلى نارٍ مشتعلة. كانت ميرا ريد تُدوِّر قطعةً من اللَّحم الأحمر النَّيئ فوق لهبٍ يسفعها فتُطَقطِق، وقد خاطبَته قائلةً: «في الوقت المناسب». فركَ بران عينيه بكعب يده وزحفَ إلى الوراء ليجلس مستندًا إلى الحائط، وأردفَت هي: «كادَ العَشاء يفوتك وأنت نائم. الجوَّال وجدَ خنزيرةً».
وراءها رأى هودور يلتهم بنهمٍ قطعةً من اللَّحم السَّاخن والدَّم والدُّهن يسيلان ليتخلَّلا لحيته، وقد تصاعدَت خيوط من الدُّخان من بين أصابعه، وبين كلِّ قضمةٍ وقضمةٍ يُتَمتِم: «هودور، هودور، هودور»، وإلى جواره كان سيفه موضوعًا على الأرض التُّرابيَّة، أمَّا چوچن ريد فأكلَ قطعته ببُطءٍ قضمةً قضمةً، يَمضُغ كلَّ واحدةٍ مرارًا قبل أن يبتلعها.
الجوَّال قتلَ خنزيرًا. كان ذو اليدين الباردتين واقفًا عند الباب بغُدافٍ على ذراعه وكلاهما يَنظُر إلى النَّار، واللَّهب منعكس في أربع أعيُنٍ سوداء. قال بران لنفسه متذكِّرًا: إنه لا يأكل، ويهاب النَّار.
 قال للجوَّال: «قلت لا نار».
- «الجُدران المحيطة بنا تُخفي الضَّوء، والفَجر دانٍ. سنُواصِل طريقنا قريبًا».
- «ماذا حدثَ للرِّجال؟ للأعداء الذين كانوا وراءنا؟».
- «لن يُزعِجوكم».
- «مَن كانوا؟ هَمجًا؟».
قلبَت ميرا اللَّحم لتشوي الجانب الآخَر، وانشغلَ هودور بالمضغ والابتلاع والتَّمتمة السَّعيدة الخفيضة. وحده چوچن بدا منتبهًا لما يَحدُث إذ التفتَ ذو اليدين الباردتين برأسه يَرمُق بران قائلًا: «كانوا أعداء».
كانوا رجالًا من حَرس اللَّيل. «لقد قتلتهم، أنت والغِدفان. كانت وجوههم ممزَّقةً وأعيُنهم مفقوئةً». لم يُنكِر ذو اليدين الباردتين، فتابعَ بران: «كانوا إخوةً. لقد رأيتهم. الذِّئاب مزَّقت ثيابهم لكنني استطعتُ تمييزها. كانت معاطفهم سوداء كيديك». لم يقل ذو اليدين الباردتين شيئًا، فسألَه بران بإلحاح: «مَن أنت؟ ما سبب اسوداد يديك؟».
أمعنَ الجوَّال النَّظر إلى يديه كأنه لم يرَهما من قبل، ثم أجابَ بصوتٍ أجش، مِثله رفيع هزيل: «ما إن يكفَّ القلب عن الخفقان تتدفَّق دماء المرء إلى أطرافه حيث تتخثَّر وتتجمَّد، وتتورَّم يداه وقدماه وتسودَّان كالعجين، أمَّا بقيَّته فتصير بيضاء كالحليب».
نهضَت ميرا ريد رافعةً رُمحها الذي ما زالَت قطعة من اللَّحم الدَّاخن مغروسةً فيه، وقالت: «أرِنا وجهك».
لكن الجوَّال لم يتحرَّك قيد أُنملة.
قال بران متذوِّقًا المِرَّة في حَلقه: «إنه ميت. ميرا، إنه شيء ميت ما. الوحوش لا تستطيع المرور ما دامَ (الجِدار) قائمًا ورجال حَرس اللَّيل مخلصين. هذا ما اعتادَت العجوز نان قوله. لقد أتى يُقابِلنا عند (الجِدار)، لكنه لم يستطِع المرور، ولذا أرسلَ سام وتلك الفتاة الهمجيَّة».
أحكمَت ميرا قبضتها حول قناة الرُّمح، وسألَت الجوَّال: «مَن أرسلَك؟ من هذا الغُراب ذو الأعيُن الثَّلاث؟».
- «صديق، حالم، ساحر، يُمكنكم تسميته كما شئتم. إنه آخِر الأنبياء الخُضر».
انفتحَ باب القاعة الطَّويلة الخشبي بعُنف، وبالخارج عوَت ريح اللَّيل الكئيبة السَّوداء. كانت الأشجار تعجُّ بالغِدفان الصَّارخة، ولم يتحرَّك ذو اليدين الباردتين.
قال بران: «وحش».
نظرَ الجوَّال إلى بران كأنما ليس للآخَرين وجود، وردَّ: «وحشك أنت يا براندون ستارك».
ردَّد الغُداف من فوق كتفه: «وحشك!»، وخارج الباب تلقَّت الغِدفان الجاثمة على الأشجار الكلمة، حتى ردَّدت غابة اللَّيل كلُّها صيحة السِّرب: «وحشك، وحشك، وحشك!».
سألَت ميرا أخاها: «چوچن، هل حلمت بهذا؟ مَن هو؟ ماذا يكون؟ ماذا نفعل الآن؟».
أجابَها چوچن: «نذهب مع الجوَّال. لقد قطعنا شوطًا أطول من أن نرجع الآن يا ميرا. لن نستطيع العودة إلى (الجِدار) أحياء أبدًا. إمَّا أن نذهب مع وحش بران وإمَّا أن نموت».

مقتطف من ترجمة غير منشورة لـ«سيِّد الخواتم»

چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم» واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي، الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في ا...