الاثنين، 30 مارس 2020

ترجمت إيه في الأدب شايف حاجة شبهه في واقعنا الحالي؟


قرأت إيه في الأدب شايف حاجة شبهه في واقعنا الحالي؟
بطبيعة الحال زادت نسبة قراءة أعمال أدبيَّة بعينها والإحالات فيها في الفترة الأخيرة، من «حرافيش» محفوظ لـ«عمى» ساراماجو لـ«موقِف» ستيڤن كينج لـ«طاعون» كامو، وحتى «عيون الظلام» رواية دين كونتز اللي تصادف إنه ذكر فيها من أكثر من 20 سنة وباء عالمي بيخرج من مدينة ووهان الصينيَّة ويجتاح العالم، وغيرها من الأمثلة اللي بتتماس بشكل أو بآخر مع الوضع الحالي.
طيِّب، ولو سألت نفسي السؤال نفسه، بس قلت «ترجمت» بدل «قرأت»؟
لي فترة بفكَّر في ده، ومع إني مش مطالب بأي شكل في أي وقت إني أترجم عمل بتتشابه أحداثه مع عالم الواقع، لكن ممكن أسأل نفسي السؤال ده وأنا باصص على اللي ترجمته بالفعل، بدون ما أحشر المواضيع في غيرها حشرًا، مش لهدف معيَّن، يمكن بس كنوع من مراجعة النفس واستبيان الواحد ممكن يكون قدِّم إيه مفيد، وكنوع من المرح طبعًا. الإجابة إني مرتين ترجمت عمل ليه صلة مباشرة بوضع حالي.
الأول كان «الناجي الأخير» لتشاك پولانك في الفترة اللي شهدنا فيها في مصر بالذات التجارة بالدين في ذروتها، وأظن كان ده واحد من الأسباب اللي حثتني على ترجمة الرواية دي.
والثاني -وما تستغربش أوي- هو «أغنية الجليد والنار».
مش بتكلِّم عن تشابهات مباشرة في أحداث بعينها، مع إن الأوبئة جزء من التاريخ الثري بتاع وستروس والأراضي المحيطة، زي «الطاعون الأرمد»، وحاليًّا من المشاكل اللي بتواجهها دنيرس تارجاريَن في ميرين مشكلة وباء «الفَرس الشاحبة» المنتشر داخل المدينة وخارجها. الكلام بالأحرى عن التيمات اللي خرجت بيها من قراءة «الجليد والنار» وترجمتها.
چورچ مارتن كان ذكر في حوار صحفي إن «الآخرين» أو «المشاة البِيض» في رواياته رمز للتغيُّر المناخي، وقال (بتصرُّف): «أهل وستروس يخوضون معاركهم المستقلَّة في سبيل السُّلطة والمكانة والثروة، وهو ما يُلهيهم تمامًا عن تهديد «الشتاء القادم»، الذي من شأنه أن يُدمِّرهم ويُدمِّر عالمهم تمامًا. في عالم الواقع أرانا نتقاتل على أشياء بعضها مهم، ولكن فيما يُمزِّق بعضنا بعضًا هناك التغيُّر المناخي، وهو مسألة حسمها العلم بنسبة 99%. ثمَّة قضايا مهمَّة بالطبع، لكنها لن تعود مهمَّة إذا كنا موتى ومُدننا في قاع المحيط».
شيل التغيُّر المناخي وحُط ڤيروس الكورونا، ومش هتلاقي الفرق كبير (رغم إن حلول أزمة جديدة ما يعنيش إن الأزمات القديمة انتهت، بس الأولويَّات بتتغيَّر).
من تيمات «الجليد والنار» إزاي البشر مؤهَّلين للتعامل مع خطر بيتهدَّدهم جميعًا، وهل هم مؤهَّلين فعلًا؟ علشان كده من خلال قراءة مارتن وترجمته سبق لي رؤية النماذج المختلفة قبل ما أشوفها في عالم الواقع: أبطال قلائل مصرِّين يعملوا الصح، ونسبة كبيرة من الجهل والتخلُّف بنندهش منها كل مرَّة مع إننا المفروض نبطَّل نندهش، ومنتفعين عايزين يطلعوا بأكبر عائد مادي ممكن، وعاهرات الاهتمام، واللي بينكروا وجود المشكلة تمامًا ويقولوا عليها خرافة أو مؤامرة، وأصحاب الحكمة بأثر رجعي اللي شافوا أخيرًا إن الإنفاق على ما هو ضروري فعلًا أهم حاجة في العالم، وغيرهم وغيرهم وغيرهم من ألوان طيف الإنسان اللي هي كلها درجات من الرمادي، مش في الخير والشر بس وإنما في نواحي الحياة كلها.
وطبعًا تيمة تعامُل اللي في السُّلطة تحديدًا مع الموقف: القادة، المرشدين، الزعماء. فيه مقولة لصحفي وكاتب أمريكي اسمه روبرت كارو بيقول فيها: «ومع أن الكليشيه الذي يرد على الألسنة دومًا هو «السُّلطة تُفسِد»، فما يُقال نادرًا هو... «السُّلطة تُفصِح».
في عالم الواقع شفنا طريقة التعامل مع بعض الضعفاء والمسنِّين زي ما حصل في إسپانيا، وشفنا حاكم تكساس اللي صرَّح إن التضحية بالمسنِّين واجب في سبيل الاقتصاد، وفي الروايات أمثلة كتير على الشيء المؤسف ده، خصوصًا في الجزء اللي بيحكي عن إن في الشمال بعد حلول الشتاء المسنِّين بييجي يوم ويعلنوا فيه إنهم «ذاهبين للصَّيد»، وبيختفوا ومفيش حد بيشوفهم تانين أو يلاقوا جثثهم المتجمِّدة في الربيع.
ما عنديش توقُّع معيَّن للنهاية. ممكن تكون نهاية سوداويَّة في الروايات وعلى أرض الواقع. قد يتجاوز البشر الأزمة ويطلعوا منها جنس أفضل اتعلِّم حاجة بعد ما بذلوا بنسب مختلفة تضحيات وعانوا، وقد يَثبُت إن الوضع هيرجع لما كان عليه بعد انتهاء الأزمة زي ما شوفنا في نهاية المسلسل الخريانة.
سواء رايحين لأفضل أو لأسوأ، وبما إن الوضع مفروض على الواحد فرضًا، فإحنا بنشهد حدث مغيِّر للعالم، وعن نفسي ممتن إني ما ترجمتش سلسلة روايات عن حدث مغيِّر للعالم وبس، لأ ولقيت صدى لده في عالم الواقع.

الثلاثاء، 17 مارس 2020

صناعة السينما بعد نهاية العالم

بعد ساعاتٍ قليلة ينتهي كل شيء، وككثيرٍ منكم أجدُ نفسي أشعر بالقلق من احتمالٍ مخيف: ماذا لو انتهى العالم قبل أن يُدرك أحدٌ كم أنا عبقري؟ فكَّرتُ في هذا الاحتمال، ووجدتُ أنه ليس هناك ما يُقلِق فعلًا، فالحقيقة أن نهاية العالم من شأنها أن تكون شيئًا عظيمًا بالنسبة إلى صانعي الأفلام المستقلِّين الذين يعانون أيما معاناة.



قد تتنوَّع الطرائق التي تحلُّ بها نهاية العالم، لكن كثيرًا من الأفكار التالية يظلُّ صالحًا رغم ذلك:

* لا قواعد بعد اليوم
- «ممنوع التصوير هنا».
- «أين التصريح؟».
- «هذا مخالف للقانون!».
- «هذا غير أخلاقي!».
مؤكَّد أنك -مثلي- سمعت هذه العبارات عشرات المرَّات، لكن الآن يمكنك أخيرًا أن تُودِّع كلَّ هذا. صوِّر ما تريد أينما أردت دون أن يُزعجك "القانون" أو "المجتمع" ويمنعك عن عملك.

* الزومبي بمثابة كومبارس رخيصي الثمن
يُضفي الكومبارس والأعداد الكبيرة مزيدًا من القيمة على فيلمك، لكنهم للأسف ليسوا إلا حلمًا بعيدًا بالنسبة إلى صانع الأفلام محدود الميزانية. الآن يمكنك أن تجمع حشودًا من الموتى الأحياء تتحرَّك في الخلفيَّة، أفضل ما في الأمر أنهم لا يمانعون أن تُطلق عليهم النار، وفي الحقيقة هذا ما يجب أن تفعله أصلًا.

* مواقع تصوير عظيمة
أطلال مُدن، فوهات براكين عملاقة، أنهار جارية من الحمم، سفن فضائيَّة... كل هذا يعتمد على نوع نهاية العالم بالطبع، لكن أيًّا كان النوع، فعليك استغلاله لأقصى حد.

* مهرجان المعدَّات
عندما تقع نهاية العالم (ضَع النوع)، وفيما يبحث الجميع بيأسٍ عن "أحبائهم" و"مخابئ"، فإن واجبك كصانع أفلام أن تُسرع إلى أقرب ستوديو أو مخزن لمعدَّات السينما، حيث الكاميرات وغيرها، وستصبح كلها لك دون أيِّ تكلفة! لا تحسب أنني أشجِّع السرقة رغم ذلك.

* أعِد إنتاج الأفلام الناجحة دون أن يدري أحد
بعد زمنٍ قصير، مع مجيء جيلٍ جديد بعد بضعة عقود، ستجد أن معك رخصة إبداعيَّة لا مثيل لها. مَن أخرج «الأب الرُّوحي»؟ أنت بالطبع! يمكنك أن تعيد إنتاج الفيلم بالكامل أو مجرَّد إضافة اسمك إلى الفيلم الأصلي. الأمر يرجع لك، فمن سيعرف على كل حال؟

* لا منافسة
هناك مئات ومئات من الأفلام التي تُصنَع كلَّ عام في سوقٍ شديدة الازدحام، يغرق متوسِّط الأفلام المستقلَّة فيها في النسيان، دون أن يجد لنفسه جمهورًا يُذكَر، لكن الآن فيلمك هو الفيلم الوحيد. ليست هناك أفلام هوليوودية ضخمة تفضح فقر مؤثراتك البصرية وإضاءتك، ولا تليفزيون، ولا مسرح، ولا ألعاب ڤيديو، بل لا توجد مياه شُرب نظيفة أصلًا. سيُشاهدون ما تعرضه، وهذا كل شيء.

* العمل مقابل الطعام صفقة ممتازة
الطعام والمصروفات، التكلفة التي يتحمَّلها أغلب المستقلِّين ودائمًا ما أثارت فيهم الغيظ مع محاولتهم ممارسة عملهم في صناعة لا تُدر كثيرًا من المال. كلُّ هذا انتهى. الآن لا بأس ببضعة ساندويتشات كأجر.

* صَوِّر نهاية العالم
هذا كل ما عليك فعله. شَغِّل كاميراتك الليلة وسيصبح لديك أعظم فيلم كوارث على الإطلاق. وإذا لم تنجُ فستصبح صاحب أعظم ڤيديو يجده من يأتون بعدنا على الأقل.

بقلم كريستيان بل، من موقع Raindance في ديسمبر 2012. 

الأحد، 15 مارس 2020

الحياة الأخرى لماريلين مونرو

مقالة بقلم چويس كارول أوتس
من عدد ديسمبر 2010 من مجلة Playboy

هل كانت ضحيَّة لنظام ستوديوهات هوليوود أم متواطِئة معها؟ أيقونة أم فتاة بسيطة من الطبقة العاملة؟


تكهُّنات كثيرة دارت حول ماريلين مونرو منذ وفاتها بجرعةٍ زائدةٍ من المخدِّرات في أغسطس 1962، وأشياء كثيرة نُعِتَت بها، تضمَّنت كلماتٍ مثل (أيقونة) و(سوپر ستار) و(فاتنة)، بالإضافة إلى صِفة (أيقونة جنسيَّة) الأكثر شيوعًا بالطبع، حتى إن من المستحيل تقريبًا أن يستطيع المرء تلافي ملاحَظة أن ماريلين مونرو كانت -فعليًّا- صنيعة لا مثيل لها لاستوديو هوليوود الأشهر Twentieth Century Fox في خمسينات القَرن الماضي. لكن من ناحيةٍ أخرى، كانت ماريلين مونرو تعتبِر نفسها -مثل أمها- مجرَّد فتاة من الطبقة العاملة، تلك الطبقة التي تكوَّنت من الأمريكان المهمَّشين، الذين لم يملكوا في فترة الكساد الأعظم في النصف الأول من القَرن العشرين خيارًا، سوى أن ينضجوا سريعًا ويحاولوا استغلال كلَّ ما لديهم من مهاراتٍ ومواهب.
ليس من المعتاد أن تعرف حقيقة أن فاتنة مثلها قد حَفِيَت قدماها بحثًا عن عملٍ في البدايات.

في Fragments (شظايا) -وهو مزيج من الخطابات واليوميَّات ومُسوَّدات القصائد والملاحظات العشوائيَّة، يُعتقَد أنه يضمُّ كلَّ حرفٍ كتبته في حياتها، باستثناء ملاحظاتها عن التمثيل- تُفصِح ماريلين مونرو عن جانبٍ آخر من نفسها يجهله كثيرون. بعد زمنٍ طويل من تحوُّل مونرو إلى الأيقونة التي يعرفها الجميع -في منتصف الثلاثينات من عمرها، قُرب النهاية المأساويَّة لحياتها القصيرة- ستعرف من خلال هذه الأوراق أن الممثِّلة الراحلة كانت شديدة القسوة على نفسها عندما تنتقدها، مهووسة بتحسين أدائها، ونهمة لتعليم نفسها بالقراءة.

بخلاف الشهور التي حملت فيها مرَّتين (وقد انتهى الحملان بالإجهاض، في 1957 و1958، عندما كانت متزوِّجة بآرثر ميلر)، فقد كانت مونرو تعمل طوال الوقت، بدايةً من 1945 (كموديل) وحتى ربيع 1962 (في الفيلم المبتذَل Something’s Got to Give الذي طُرِدَت منه). بعد طلاقها من زوجها الثاني چو ديماچيو ورحيلها من هوليوود سنة 1954، لتصبح طالبة في ستوديو الممثِّلين في نيويورك، كانت مونرو تأمل أن تصبح ممثِّلة مسرحيَّة تلعب أدوارًا في مسرحيَّات تشيخوڤ وشيكسپير، وكانت مستعدَّة تمامًا لأن تلتزم بنظام تدريبات التمثيل، كأنها ممثِّلة غير معروفة ما زال مسارها المهني الاحترافي الحقيقي ينتظرها.
كانت مونرو تلجأ إلى لي ستراسبرج، مدير ستوديو الممثِّلين، باعتباره منقِذها، وفي واحدةٍ من الرسائل تقول له:
«العزيز لي، أشعرُ بالحَرَج لكتابة هذا، لكني أشكرك على تفهُّمك وتغييرك لحياتي -وإن كنت لا أزال أشعر بالضياع رغم هذا التغيير، ولا أقدر على استجماع شتات نفسي- بينما يتَّحد كلُّ شيءٍ آخر حولي ليسلبني تركيزي، جاعلاً كلَّ ما أحاول فعله في حياتي شبه مستحيل. عندما سمعتك تتكلَّم للمرَّة الأولى في ستوديو الممثِّلين، كنت تقول إن التركيز وحده يفصل بين الممثِّل والانتحار. لكن بمجرَّد أن أبدأ تصوير أيِّ مشهد، أجد أن هدوئي النفسي قد راح مني لسببٍ ما لا أدريه، فيتشتَّت تركيزي. كلما وقفت أمام الكاميرا، وجدت أن كلَّ ما تعلَّمته يتلاشى من داخلي، وعندها أشعر كأنني لست إنسانة أصلاً».

وُلدَت مونرو باسم نورما چين بيكر في 1 يونيو 1926، في جناح الصَّدَقة بمستشفى لوس أنچليس العام، لأمٍّ تعمل كمونتيرة للأفلام في هوليوود اسمها جلاديس پيرل بيكر، لكنها لم تعرف أباها قَط، لذلك كنت تجد نورما چين بيكر/ماريلين مونرو تتصرَّف كواحدةٍ من شخصيَّات قصص الأخوين جريم الأكثر قسوة، وتبحث عن أبيها الغائب طوال حياتها في الرجال الذين أحبَّتهم، حتى إنها كانت تنادي الواحد منهم باسم (بابا) في متتاليةٍ من العلاقات المنقوصة تُوِّجَت سنة 1961 بعلاقةٍ بأقوى رجل في الولايات المتحدة الأمريكية، الرئيس چون كندي، قبل أقل من عامٍ واحد من وفاتها.
وعلى الرغم من حضور أمها المستمر في حياتها عندما كانت طفلة، فإن جلاديس پيرل بيكر كانت غائبة عنها بشكلٍ آخر في الآن ذاته، إذ كانت تعاني من الحالة التي أصبحت معروفة الآن باسم الاضطراب ثنائي القُطب، وكثيرًا ما حاولت الانتحار ودخلت عددًا كبيرًا من المصحَّات النفسيَّة للعلاج، وهو ما أدى إلى عدم استطاعتها تكوين رابطٍ عاطفي مع ابنتها نورما چين، وجعلها تضعها في ملاجئ للأيتام عدَّة مرَّات. المثير للسخرية المريرة هنا أنه، لأن أم نورما چين الصغيرة كانت على قيد الحياة، فلم يكن من الممكن وضعها على قوائم الأطفال المرشَّحين للتبنِّي كبقيَّة الأطفال.

وكما كان حُلم نورما چين بيكر أن تعيش مع أمها وتعثر على أبيها الغائب، كان حُلم ماريلين مونرو ألا يساعدها مدير ستوديو الممثِّلين على تغيير حياتها الخارجيَّة دائمة الاضطراب فحسب، بل أن يتمادى إلى محاوَلة تغييرها هي نفسها من الداخل كذلك.
في ديسمبر 1961، في خضم حالتها النفسيَّة شديدة السوء بعد فشل زيجتها الثالثة -بآرثر ميلر- تجد أن أسلوب خطاب مونرو لستراسبرج يحمل مسحة لا يمكن تجاهُلها من اليأس:
«طيلة سنواتٍ وأنا أكافح للعثور على شيءٍ من الأمان النفسي مع القليل من النجاح، لكن فقط خلال الشهور القليلة الماضية أجد نفسي وقد بدأت بداية متواضعة أخيرًا. إن أملي أن أجد قطعة من الأرض الثابتة أضع قدمي عليها، بدلًا من الرمال المتحرِّكة التي طالما غُصت فيها... لكن الدكتور جريسن تتَّفق مع ما قلته أنت؛ إنه كي أعيش حياة معقولة فيها إنتاج حقيقي، فلا بد أن أعمل وأعمل وأعمل! ولا يقتصر العمل على الأداء الاحترافي فحسب، بل أن أدرس وأكرِّس نفسي تمامًا كذلك. إن عملي هو الأمل الحقيقي الوحيد الذي أملكه».

سيندهش محبو ماريلين مونرو عندما يعرفون أنها، طوال حياتها كممثِّلة، لم تستطع قَط أن تُرسِّخ نفسها لدى ستوديوهات هوليوود كممثِّلة من الصَّف الأول على غرار زميلاتها المعاصرات، مثل چين راسل وإيڤا جاردنر وإليزابث تايلور ودوريس داي، بل كانوا يعتبرونها دائمًا ممثِّلة من الصَّف الثاني مهما حاولت واجتهدت وتنوَّعت أدوارها. في وقت كتابة ذلك الخطاب كانت مونرو تتمنَّى التحرُّر من سيطرة ستوديوهات Twentieth Century Fox عليها وتأسيس شركة إنتاج مستقلَّة بمساعدة صديقها مارلون براندو، بالإضافة إلى ستراسبرج، لكن محاولاتها باءت بالفشل، تمامًا كمحاولتها الأولى قبل سبع سنوات. يقال إن حظ مونرو العاثر هو ما جعلها تعيش في حقبةٍ لم يكن الممثِّلون والموسيقيُّون والرياضيُّون المحترفون يملكون فيها ما يكفي من قوَّةٍ لمناقشة عقودهم بأنفسهم، وإنه لو كانت قد جاءت بعد عقدين فقط من الزمن، لكانت قد سبقت مادونا بمراحل.

عن حُلمٍ راودها ورأت نفسها فيه تخضع لعمليَّة جراحيَّة على يد ستراسبرج ومعالِجتها النفسيَّة في نيويورك، الدكتور مارجريت هوهنبرج، كتبت مونرو قائلة إنها اكتشفت أنها خاوية تمامًا من الداخل:
«يشعر ستراسبرج بخيبة أملٍ شديدة فيَّ، والأهم أنه يشعر بالدهشة من نفسه لأنه ارتكب خطأً كهذا من الناحية الأكاديميَّة. كان يحسب أن المستقبَل يحمل الكثير جدًّا، أكثر مما كان يتصوَّر أو يحلم، لكنه لم يجد شيئًا من هذا أعطيه إياه في النهاية».

في فبراير 1961، مع تراجُع دعم ستوديو الممثِّلين لها، ومع فشل خمس جلسات من العلاج النفسي أسبوعيًّا، أصيبت مونرو بواحدٍ من أسوأ الانهيارات العصبيَّة في حياتها، وأُجبرَت على دخول مصحَّة نفسيَّة، ثم إنها كتبت لاحقًا بشيءٍ من السخرية عن الشعور بالإهانة والألم والغضب الذي أصابها هناك:
«لم يكن هناك أيُّ نوعٍ من التعاطُف في هذا المكان، وكان تأثيره عليَّ في غاية السوء. بعد أن وضعوني في "زنزانةٍ" للمرضى شديدي الاكتئاب -وكانت بالفعل غرفة من الأسمنت المصمت الكئيب- شعرت بأنني مسجونة لجريمةٍ لم أرتكبها. سألوني لِمَ لا أشعر بالسرور لوجودي في هذا المكان، فقلت لهم: إذا شعرت بالسرور لوجودي هنا، فأنا مجنونة!».

يتكوَّن أول ما كتبته مونرو في Fragments من صفحاتٍ مفردة تعود إلى سنة 1943، عندما كانت متزوِجة بتاجر بحري يُدعى چيمس دوجرتي، الذي كان ابن الجيران وتزوَّجته بعد أسبوعين من عيد ميلادها السادس عشر، كي لا يعيدوها مرغمةً إلى الملجأ الذي كانت تقطن فيه حتى تبلغ السِّن القانونيَّة. كانت مونرو تكتب عن عدم إخلاص دوجرتي لها وعلاقاته المتعدِّدة بفتياتٍ غيرها، وبعدها بفترةٍ قصيرة بدأت العمل في شركة Radio Plane Company، حيث اكتشفها مصوِّر من مجلة Yank لتصبح موديلًا واعدة في واحدةٍ من وكالات هوليوود، حيث شجَّعوها على صبغ شعرها الأسود باللون الأشقر، فكانت النتيجة أنها تحوَّلت سريعًا إلى نجمةٍ صاعدة تعمل لحساب ستوديوهات Twentieth Century Fox، التي منحتها اسم شهرتها، ماريلين مونرو.
لم تدُم زيجة ماريلين مونرو الثانية -بچو ديماچيو- أكثر من تسعة أشهُر، كانت تحوَلت في أثنائها من النجمة الصاعدة إلى السوپر ستار المعروفة، خصوصًا مع الحملة الإعلانية المكثَّفة التي نالها فيلمها Niagara، الذي حقَّق نجاحًا هائلًا في شباك التذاكر، مثله مثل عددٍ من أفلامها الأخرى الشهيرة، كـGentlemen Prefer Blondes وHow to Marry a Millionaire وطبعًا Some Like It Hot، أنجح أفلامها على الإطلاق.
وكان The Misfits، آخر أفلام مونرو المكتملة، والذي كتبه آرثر ميلر وعُرِض سنة 1961، يختلف تمامًا في القيمة الفنيَّة عن أفلام (الشقراء البلهاء) التي اشتهرت بسببها، وإن لم ينل إلا القليل من النقد الإيجابي، وكان أداؤه في شباك التذاكر ضعيفًا.

ماريلين مونرو وآرثر ميلر


ويبدو أن فشل زيجتها الأخيرة -بآرثرميلر- سنة 1960 قد أضاف إلى حالتها النفسيَّة غير المستقرَّة، لكن أوراق مونرو لا تضمُّ أيَّ شيءٍ على الإطلاق عن تلك الفترة الأخيرة في حياتها، التي أدمنت فيها المخدِّرات ودخلت فيها في علاقة فاشلة من الرئيس كندي ثم أخيه روبرت، كأنها توقَّفت عن كتابة تلك الرسائل العلاجيَّة لنفسها، ولا توجد أيُّ إشارةٍ البتة لإدمانها واعتناقها اليهودية من أجل آرثر ميلر، أو حتى أفول نجمها مع فشل أفلامها الأخيرة.
ثم، في عدد 17 أغسطس سنة 1962، ظهرت الجميلة ماريلين مونرو للمرَّة الأخيرة على غلاف مجلة Life، بعد العثور عليها ليلة 5 من الشهر نفسه ميتة في بيتها الصغير بجرعةٍ زائدةٍ من المخدِّرات.
في حوارٍ معها سنة 1959، قالت ماريلين مونرو: «أعتقد أنني حُلم لا أكثر، مجرَّد طيفٍ عابر في حياة الآخرين».


الثلاثاء، 3 مارس 2020

قصص من 6 كلمات

«للبيع: حذاء رضيع، لم يُنتعَل قَط».
إرنست همنجواي


القصَّة باختصار، كما حكاها آرثر سي كلارك في رسالةٍ إلى چون روبرت كولومبو في عام 1992، أن همنجواي كان في مطعم مع مجموعة من أصدقائه، وراهن كلًّا من الجالسين إلى الطاولة بعشرة دولارات على أنه يستطيع أن يكتب قصَّة كاملة من ست كلمات فقط، وبعد أن قبلوا أخذ همنجواي منديل مائدة وكتب عليه هذه القصَّة وأراها لأصدقائه ثم جمع منهم قيمة الرهان. يقال إن همنجواي وصف هذه القصَّة -التي صارت أشهر من نار على علم- بأنها أفضل أعماله على الإطلاق، ولو أن هناك ما يشير إلى أن أحدهم سبقه إلى كتابتها في مطلع القرن العشرين، وفي الوقت ذاته يؤكِّد كثيرون ممن عرفوا همنجواي أنها قصَّته.
في جميع الأحوال، كانت هذه القصَّة بدايةً للطراز الأدبي المعروف باسم Flash Fiction أو ”القصَّة الومضة“. ثمَّة تجارب لكثير من الأسماء المعروفة في كتابة قصص تتكوَّن من ست كلمات فقط، وتجارب لا تُحصى لآخرين، واخترنا عددًا من أفضل هذه القصص لنقدِّمه باللغة العربيَّة، بعضها لكُتاب معروفين، والبعض الآخر مجهول المصدر.



«زمن. دون أن أتوقَّع، اخترعتُ آلة».
مايكل مور
------

«انتهى ضمان السيَّارة، ثم تعطَّل المحرِّك».
ستان لي
------

«قبَّلتُها فذابت. أعطني الممسحة من فضلك!».
چيمس پاتريك كلي
------

«قال بوش الحقيقة، وعندها تجمَّدت جهنم».
ويليام جيبسون
------

«ومع ذلك، فقد حاول للمرَّة الثالثة».
چيمس پ. بايلوك

«السَّماء تسقط. التفاصيل في الحادية عشرة».
روبرت چوردان
------

«أحرقتُ كومة القش، فعثرتُ على الإبرة».
------

«بشر مستعبَدون، آلات مستعبَدة، بشر مستعبَدون».
------

«هاجرتُ، وأخيرًا أشعرُ أنني في الوطن».
------

«رأيتُ انعكاسي في المرآة يغمز لي».
------

«فائدة الألزهايمر: أصدقاء جُدد كل يوم!».
------

«غريبان. صديقان. أعز أصدقاء. حبيبان. غريبان».
------

«مرثيَّة: البشر الحمقى لم يغادروا الأرض».
ڤرنور ڤينج
------

«مستحيل أن أكون حاملًا. إنني عذراء».
كايت أتكينسن
------

«بدأنا نستخدم الطاقة الشمسيَّة، فانطفأت الشمس».
كِن ماكلويد
------

«بدهشةٍ أخذ يقرأ نعيه في الجريدة».
ستيڤن ميريتزكي
------

«اخترعوا نظَّارات كشف الكذب، فانهارت الحضارة».
ريتشارد پاورز
------

«إنني ميت، وأشتاقُ إليكِ. هلَّا قبَّلتِني؟».
نيل جايمان
------

«عيد زواجنا الخمسون. مائدة لفردٍ واحد».
------

«وثبتُ من النافذة، ثم غيَّرتُ رأيي».
------

«قدَّمتُ نفسي لأمي مرةً ثانيةً اليوم».
------

«وداعًا غرفة التحكُّم، شكرًا لأنكم حاولتم».
------

«التوابيت الصغيرة هي الأثقل على الإطلاق».
------

«قال الصوت الحبيب: الرقم غير صحيح».
------

«إنه وراءك مباشرةً! أسرع قبل أن...».
روكني س. أوبانون
------

«فصيلة دم الرضيع؟ نسبة منها بشريَّة».
بروس سترلينج
------

«كي يُنقذ البشريَّة، مات من جديد».
أورسون سكوت كارد
------

«بلغت آلة الزمن المستقبل. الكوكب ميت».
هاري هاريسون
------

«أرجوك، هذا كل شيء، أقسم لك».
أورسون سكوت كارد
------

«لم يتبق لديه إلَّا ست كلمات».
جريجوري ماجواير
------

«فشلتُ دراسيًّا. حاولتُ الانتحار. فشلتُ ثانيةً».
------

«احتشدَ الملايين يرفضون الموت، فضحك الله».
------

«يمدُّ الموت يده مبتسمًا ويقول: اتفقنا؟».
------

- «انتهى البتر».
- «دكتور، هذه الساق الخطأ!».
------

«يصرخ المنشار الكهربائي، وتصرخ هي أيضًا».
------

«لا يستطيع إطعام قاتِلها غير السوائل».
------

«آسف أيها الجندي، الأحذية تُباع بالأزواج».

الاثنين، 2 مارس 2020

مقتطف من قصة «تنِّين الجليد» لچورچ ر. ر. مارتن

في هذه القصة للكاتب الأمريكي جورج ر. ر. مارتن نرى بذور الأفكار التي طوَّرها لاحقًا في العمل الضخم الذي قدَّمه بعد ذلك للناضجين. هنا يقدِّم صاحب «أغنية الجليد والنار» قصة بسيطة ولكن حافلة بسحر وجمال كتاباته ولغته الشِّعرية، تشجِّع القرَّاء الصغار والكبار على دخول عالم الخيال من باب واحدٍ من أفضل من كتبوا فيه.


لا تدري متى رأته أول مرَّة، ويبدو لها أنه كان جزءًا من حياتها على الدَّوام، طيفًا لمحَته في عُمق الشِّتاء يُحلِّق في زمهرير السَّماء بجناحين أزرقين صافيَيْن. لطالما كانت تنانين الجليد نادرة، حتى في تلك الأيام، وحين يُرى أحدها يظلُّ الأطفال يُشيرون متعجِّبين، فيما يُتَمتِم الكبار ويهزُّون رؤوسهم، فعندما تظهر تنانين الجليد في الأنحاء فهذا نذير بشتاءٍ طويل قارس. يقول النَّاس إن تنِّين جليدٍ شُوهِدَ طائرًا أمام وجه القمر ليلة ميلاد آدارا، وقد شُوهِدَ مجدَّدًا كلَّ شتاءٍ منذ ذلك الحين، وكانت تلك الأشتية سيِّئةً بحق، وفي كلِّ عامٍ يتأخَّر مجيء الرَّبيع. وهكذا يُشعِل النَّاس النَّار ويُصلُّون ويأملون أن يُبعِدوا تنِّين الجليد عنهم، ويُفعِم آدارا الخوف.
لكن شيئًا من هذا لم ينجح، وفي كلِّ عامٍ يعود تنِّين الجليد، وتعلم آدارا أنه أتى من أجلها.
تنِّين الجليد كبير الحجم، أكبر نصف مرَّةٍ من التَّنانين الحربيَّة ذات الحراشف الخضراء التي يطير بها هال ورفاقه. كانت آدارا قد سمعَت أساطير عن تنانين شرسة أضخم من الجبال، لكنها لم ترَ واحدًا منها قَطُّ. تنِّين هال كبير بما فيه الكفاية قطعًا، يَبلُغ خمسة أضعاف الحصان حجمًا، لكنه صغير مقارنةً بتنِّين الجليد، وقبيح كذلك.
لون تنِّين الجليد أبيض بلَّوري، تلك الدَّرجة من البياض شديدة النُّصوع والبرودة حتى إنها تكاد تبدو زرقاء، وجسمه مغطَّى بالصَّقيع الأبيض الهش، ولذا عندما يتحرَّك يتكسَّر جِلده ويُطِقطِق كقشرة الثَّلج حين يخطو فوقها شخص بحذائه، وتَسقُط منه رقاقات من الجليد.
وعيناه صافيتان وعميقتان وجليديَّتان.
وجناحاه هائلان شبيهان بجناحَي الوطواط، لونهما أزرق باهت شِبه شفَّاف، وعبرهما يُمكن لآدارا أن ترى السَّماء، وفي أحيانٍ كثيرة القمر والنُّجوم أيضًا، عندما يدور الوحش في حلقاتٍ مجمَّدة في أرجاء السَّماء.
وأسنانه صفٌّ ثلاثي من كُتل الجليد المدبَّبة، حراب محزَّزة ليس لطولها مثيل، بيضاء في حلقه الأزرق العميق.
حين يخفق تنِّين الجليد بجناحيه تهبُّ الرِّيح الباردة وتدور دوَّامات الثَّلج العنيفة ويبدو العالم كأنه ينكمش ويرتعش. أحيانًا عندما ينفتح باب ما في برد الشِّتاء وقد دفعَته هبَّة ريحٍ مفاجئة يُسارِع صاحِب المنزل بإغلاقه قائلًا: «ثمَّة تنِّين جليد يطير على مقربة».
ولمَّا يفتح تنِّين الجليد فاه العظيم ويزفر، فما يَخرُج منه ليس نارًا، ليس الكبريت الحارق كريه الرَّائحة الذي تُطلِقه التَّنانين الأقلُّ شأنًا.
تنِّين الجليد ينفث البرد.
عندما ينفث يتكوَّن الجليد، ويفرُّ الدِّفء، وتتذبذَب النِّيران وتنطفئ وقد أذبلَ زهرتها البرد، وتتجمَّد الأشجار حتى أرواحها السرِّيَّة المتأنِّية، وتصير فروعها هشَّةً وتتشقَّق من جرَّاء وزنها، وتزرقُّ الحيوانات وتئنُّ وتموت بأعيُنٍ جاحظة وجِلد مغطَّى بالصَّقيع.
تنِّين الجليد ينفث الموت في العالم، الموت والسُّكون والبرد، لكن آدارا لا تخشاه، فهي طفلة الشِّتاء، وتنِّين الجليد سرُّها.



* القصة ليست جزءًا من عالم الجليد والنار.

مقتطف من ترجمة غير منشورة لـ«سيِّد الخواتم»

چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم» واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي، الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في ا...