السبت، 25 يناير 2020

مليساندرا: مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»

مقتطف من الفصل الوحيد لمليساندرا -حتى الآن- في السِّلسلة.


لا يعرف الظَّلام الدَّامس سبيلًا إلى مسكن مليساندرا أبدًا.
على عتبة النَّافذة تتَّقد ثلاث شموعٍ من الشَّحم لتدرأ أهوال اللَّيل، وعلى جانبَي فِراشها يرتعش لهب أربعٍ أخريات، وفي المستوقَد تضطرم النَّار طيلة النَّهار واللَّيل. أول درسٍ يتعلَّمه من يخدمونها ألَّا يسمحوا للنَّار بالانطفاء أبدًا وتحت أيِّ ظرف.
أغلقَت الرَّاهبة الحمراء عينيها وردَّدت صلاةً، ثم عادَت تفتحهما لتُواجِه نار المستوقَد. مرَّة أخرى. يجب أن تتيقَّن. رُهبان كثيرون وراهبات كثيرات من قبلها أودَت بهم الرُّؤى الزَّائفة إلى التَّهلُكة، إذ رأوا ما أرادوا أن يروه بدلًا من رؤية ما أرسلَه إليهم إله الضِّياء. ستانيس يزحف جنوبًا إلى الخطر، الملك الذي يحمل مصير العالم على عاتقه، آزور آهاي المولود من جديد. مؤكَّد أن راهلور سيُنعِم عليها بلمحةٍ مما ينتظره. أرِني ستانيس يا إلهي، أرِني ملكك، أداتك.
تراقصَت الرُّؤى أمامها ذهبيَّةً وقرمزيَّةً، تتذبذَب، تتكوَّن وتذوب ويُخالِط بعضها بعضًا، أشكال غريبة ومرعبة وفاتنة. رأت الوجوه عديمة الأعيُن ثانيةً، تُحدِّق إليها من محاجر خالية تبكي دمًا، ثم الأبراج على البحر تتهاوى إذ يكتسحها الطُّوفان الأسود الفائر من الأعماق. ظلال على شكل جماجم، وجماجم تستحيل إلى سديم، وجُثث متعانقة تتلوَّى وتتدحرَج وتخمش بشهوة، وعبر حُجب النِّيران ظلال مجنَّحة عظيمة تدور في سماء زرقاء قاسية.
الفتاة، يجب أن أجد الفتاة ثانيةً، الفتاة الرَّماديَّة على الحصان المائت. هذا ما سيتوقَّعه چون سنو منها، وقريبًا. لن يكفي أن تقول إن الفتاة هاربة. سيُريد المزيد، سيُريد أن يعرف الزَّمان والمكان، وذلك لا تعلمه بعدُ. لقد رأت الفتاة مرَّةً واحدةً فقط. فتاة بلون الرَّماد، وبينما أشاهدُ تفتَّتت وذابَت.
 تجسَّد وجه في نار المستوقَد، وللحظةٍ لا أكثر تساءلَت: ستانيس؟ لكن لا، ليست هذه ملامحه. وجه خشبي، أبيض كالجُثث. أهذا هو العدوُّ؟ في اللَّهب المتأجِّج سبحَت ألف عينٍ حمراء، فقالت لنفسها: إنه يراني، وإلى جواره ألقى صبيٌّ برأس ذئبٍ رأسه إلى الوراء وراحَ يعوي.
ارتجفَت الرَّاهبة الحمراء، وسالَ الدَّم على فخذها قطرةً قطرةً، أسود يتصاعَد منه الدُّخان. النَّار في داخلها، عذاب وحَرقة، نشوة ووجْد، تُفعِمها، تلفحها، تُحوِّلها. رسمَ وميض الحرارة أشكالًا منتظمةً على جِلدها بإصرار يد العاشق، ونادَتها أصوات غريبة من أيامٍ أدبرَت وولَّت. سمعَت امرأةً تصيح: «ميلوني»، وصوت رجلٍ يزعق: «الدُّفعة 7». كانت تبكي، ودموعها لهب، ولم تزَل تتشرَّبه.
نزلَت رقائق الثَّلج تدور من سماءٍ مدلهمَّة وارتفعَ الرَّماد يُلاقيها، يدور الرَّمادي حول الأبيض والأبيض حول الرَّمادي فيما تُحلِّق السِّهام النَّارية فوق سورٍ خشبي، وتتقدَّم أشياء ميتة بخُطى ثقيلة صامتة عبر البرد أسفل جُرفٍ رمادي حيث تشتعل النَّار داخل مئة كهف. ثم اشتدَّت الرِّيح وجاءَ الضَّباب الأبيض يكتسح الموجودات، برودته مستحيلة، وواحدةً تلو الأخرى همدَت النِّيران، وبعدها لم يبقَ إلَّا الجماجم.
الموت، الجماجم تعني الموت.
 طقطقَ اللَّهب بنعومة، وفي طقطقته سمعَت اسم چون سنو يُهمَس، وسبحَ وجهه أمامها مرسومًا بألسنةٍ من الأحمر والبُرتقالي، يتبدَّى ويتلاشى ثانيةً، ظِلٌّ شِبه مرئي وراء ستارٍ مهزوز. الآن هو رجل، والآن ذئب، والآن رجل من جديد. لكن الجماجم هنا، الجماجم تُحيط به من كلِّ اتِّجاه. رأت مليساندرا الخطر المحدق بالفتى من قبل، وحاولَت أن تُحذِّره منه. أعداء يُطوِّقونه، خناجر في الظَّلام. غير أنه رفضَ أن يُصغي.
لا يُصغي غير المؤمنين أبدًا إلَّا بعد فوات الأوان.
سألَها الصَّبي بخفوت: «ماذا ترين يا سيِّدتي؟».
جماجم، ألف جمجمة، والفتى النَّغل ثانيةً، چون سنو. متى سُئِلَت عمَّا تراه في نيرانها تُجيب مليساندرا: «الكثير»، لكن الرُّؤية ليست بالبساطة التي تُوحي بها الكلمة إطلاقًا. إنه فنٌّ، وككلِّ الفنون يستلزم إتقانًا وانضباطًا ودراسةً. وألمًا أيضًا. يُحدِّث راهلور مختاريه من خلال النَّار المبارَكة بلُغةٍ من رمادٍ وجمرٍ ولهبٍ يتلوَّى، لُغةٍ لا يستطيع امتلاك مفاتيحها سوى إله. منذ سنين لا تُحصى تُمارِس مليساندرا فنَّها، وقد دفعَت الثَّمن. لا أحد على الإطلاق -حتى في طائفتها- يتمتَّع بمهارة رؤية الأسرار نِصف المنجلية نِصف الخبيئة في اللَّهب المقدَّس.
لكن الآن لا يبدو أنها تستطيع العثور على ملكها حتى. أصلِّي من أجل لمحةٍ من آزور آهاي فلا يُريني راهلور إلَّا سنو. نادَت: «دڤان، شراب». حَلقها جاف تمامًا وعطشها شديد.
قال الصَّبي: «نعم يا سيِّدتي»، وصبَّ لها كوبًا من الماء من الإبريق الحجري الموضوع عند النَّافذة وجلبَه لها.
قالت مليساندرا: «أشكرك»، وأخذَت رشفةً وابتلعَتها ومنحَت الصَّبي ابتسامةً خضَّبت وجهه بالحُمرة. تعلم أنه شِبه واقع في غرامها. يخشاني ويُريدني ويَعبُدني.
وعلى الرغم من هذا لا يَشعُر دڤان بالرِّضا عن وجوده هنا. من دواعي فخر الصَّبي العظيم أن يخدم كمُرافقٍ للملك، وقد جرحَه أن أمرَه ستانيس بالبقاء في (القلعة السَّوداء)، فككلِّ صبيٍّ في سِنِّه يمتلئ عقله بأحلام المجد، ولا ريب أنه كان يتخيَّل البسالة التي سيُبديها في (ربوة الغابة). صِبيان آخَرون في سِنِّه ذهبوا جنبوًا ليخدموا كمُرافقين لفُرسان الملك ويَدخُلوا المعركة إلى جانبهم، ومؤكَّد أن استبعاد دڤان بدا كتبكيت، كعقابٍ على فشلٍ ما منه، أو ربما على فشلٍ ما من أبيه.
لكن الحقيقة أنه هنا لأن مليساندرا طلبَته. لقد ماتَ أبناء داڤوس سيوورث الأربعة الكبار في معركة (النَّهر الأسود)، حين التهمَت النَّار الخضراء أسطول الملك، ودڤان هو الابن الخامس، وفي أمانٍ أكثر هنا معها من جانب الملك. لن يَشكُرها اللورد داڤوس على هذا، مِثلما لن يَشكُرها الصَّبي نفسه، ومع ذلك بدا لها أن سيوورث قاسى ما يكفي من أحزان، وعلى الرغم من ضلاله فإخلاصه لستانيس لا يرقى إليه الشَّكُّ، وقد رأت هذا في لهبها.
دڤان سريع وذكي وبارع أيضًا، وهذا أكثر مما يُمكن أن يُقال عن معظم تابعيها. تركَ ستانيس دستةً من رجاله لخدمتها عندما تحرَّك جنوبًا، لكن أكثرهم عديم الفائدة. جلالته في حاجةٍ إلى كلِّ مُقاتل، فلم يستطِع الاستغناء إلَّا عن المسنِّين والمُعاقين. أحد الرِّجال أعمَته ضربة على رأسه خلال المعركة عند سفح (الجِدار)، وآخَر كسَّحه سقوط حصانه عليه محطِّمًا ساقيه، ورقيبها أفقدَته ذراعه هراوة عملاق، وثلاثة من حُرَّاسها مخصيُّون عقابًا من ستانيس على اغتصاب نساءٍ همجيَّات، وفي خدمتها سكِّيران وفتى جبان أيضًا. كان المفروض أن يُشنَق هذا الأخير -كما أقرَّ الملك نفسه- لكنه من عائلةٍ نبيلة، وأبوه وإخوته ثابتون على العهد من البداية.
تعلم الرَّاهبة أن الاحتفاظ بحراسةٍ حولها سيجعل الإخوة السُّود يلزمون الاحترام المطلوب، لكن أحدًا من الرِّجال الذين أعطاهم ستانيس لها لن يكون ذا عونٍ كبير إذا وجدَت نفسها في خطر. لا يهمُّ، فمليساندرا الآشايِيَّة لا تخاف على نفسها، وسيحميها راهلور.
أخذَت رشفةً أخرى من الماء ووضعَت الكوب جانبًا، ثم أغمضَت عينيها وفتحَتهما عدَّة مراتٍ وتمطَّت ونهضَت من مقعدها محسَّةً بتيبُّس عضلاتها. بعد التَّطلُّع إلى اللَّهب طويلًا استغرقَت بضع لحظاتٍ حتى تكيَّف بصرها مع الظَّلام. عيناها جافَّتان متعَبتان، لكن إذا فركَتهما فسيزداد الألم.
رأت أن نارها خمدَت، فقالت: «المزيد من الحطب يا دڤان. ما السَّاعة؟».
- «قُبيل الفَجر يا سيِّدتي».
الفَجر. مُنِحنا نهارًا آخَر بنعمة راهلور. أهوال اللَّيل تنجلي. أمضَت مليساندرا اللَّيلة في مقعدها عند النَّار كما تفعل أكثر الوقت. بعد رحيل ستانيس لم تَعُد تستخدم فِراشها إلَّا قليلًا، فليس لديها وقت للنَّوم الآن وهموم العالم كلِّه على كاهلها. كما أنها تخشى أن تَحلُم. النَّوم موت صغير، والأحلام همس (الآخَر) الذي يودُّ أن يجرَّنا جميعًا إلى ليله السَّرمدي. تُؤثِر أن تتحمَّم بالوهج المحمر الذي يبعثه لهب ربِّها الأحمر المبارَك، تحتقن وجنتاها من اللَّهيب كأن حبيبًا يغمرهما بالقُبلات. في بعض اللَّيالي تغفو، لكن غفوتها لا تدوم أكثر من ساعة، وتدعو مليساندرا أن يأتي يوم وتنتهي حاجتها إلى النَّوم تمامًا. ميلوني. الدُّفعة 7.
أذكى دڤان النَّار بقطع الحطب إلى أن استعرَّ لهبها من جديدٍ بعتوٍّ وشراسةٍ دافعًا الظِّلال إلى الانسحاب إلى أركان الغُرفة وملتهمًا أحلامها المرفوضة. الظَّلام ينحسر مجدَّدًا... لبعض الوقت، لكن وراء (الجِدار) يزداد العدوُّ قوَّةً، وإذا انتصرَ فلن يطلع الفَجر ثانيةً أبدًا. تساءلَت إن كان وجهه ما رأت يُحدِّق إليها من اللَّهب. لا، قطعًا لا. مؤكَّد أن مُحيَّاه أكثر إثارةً للخوف، بارد وأسود وأشنع من أن يقع عليه بصر إنسان ويعيش. أمَّا الرَّجل الخشبي الذي رأته والصَّبي ذو وجه الذِّئب... لا شكَّ أنهما خادماه... نصيراه، كما أن ستانيس نصيرها.
ذهبَت مليساندرا إلى نافذتها وفتحَت مصراعيها. في الخارج بدأ الشَّرق يُنير، ولا تزال نجوم الصُّبح تُرصِّع السَّماء الحالكة. بدأت (القلعة السَّوداء) تتحرَّك بالفعل إذ قطعَ الرِّجال ذوو المعاطف السَّوداء السَّاحة ليُفطِروا على أوعية الثَّريد قبل أن يحلُّوا محلَّ إخوتهم على قمَّة (الجِدار). كانت نُدف ثلجٍ قليلة تتطايَر عند النَّافذة المفتوحة محمولةً على الرِّيح.
سألَها دڤان: «هل تُريد سيِّدتي أن تتناوَل الإفطار؟».
الطَّعام. نعم، عليَّ أن آكل. في بعض الأيام تنسى. يمدُّها راهلور بكلِّ ما يحتاج إليه جسدها من غذاء، لكن الأفضل أن يبقى شيء كهذا مجهولًا للفانين.
إنها محتاجة إلى چون سنو، لا إلى الخُبز المحمَّر واللَّحم المقدَّد، ولكن لا جدوى من إرسال دڤان إلى حضرة القائد، فلن يُلبِّي استدعاءها. ما زالَ سنو مقيمًا وراء مستودَع السِّلاح في مسكنٍ متواضع من غُرفتين كان يحتلُّهما حدَّاد حَرس اللَّيل الرَّاحل. ربما لا يحسب نفسه جديرًا بـ(بُرج الملك)، وربما لا يكترث. هذه هي غلطته، تواضُع الشَّباب الزَّائف الذي يعدُّ في حدِّ ذاته نوعًا من الغرور. ليس من الحكمة أبدًا أن يتجنَّب القائد زُخرف السُّلطة، فالسُّلطة نفسها تنساب بقدرٍ ليس بالقليل من هذا الزُّخرف.
على أن الفتى ليس ساذجًا بالكامل. إنه أذكى من أن يأتي مليساندرا في مسكنها مستجديًا، ويصرُّ على ذهابها إليه بدلًا من ذلك إذا أرادَت أن تتحدَّث معه، وفي أغلب الأحيان إذا ذهبَت إليه يَترُكها منتظرةً أو يَرفُض رؤيتها. على الأقل يتمتَّع في هذا بالفطنة.

مقتطف من ترجمة غير منشورة لـ«سيِّد الخواتم»

چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم» واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي، الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في ا...