الثلاثاء، 16 يوليو 2019

مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»


الكتاب الخامس من «أغنية الجليد والنار»
نهاية العام، عن دار التنوير
ترجمة: هشام فهمي



عندما استيقظَ ثانيةً وجدَ نفسه في غُرفة نومه من جديد، غارقًا في الفِراش المحشو بريش الإوزِّ بينما تهزُّه فتاة شقراء من كتفه قائلةً: «سيِّدي، حمَّامك جاهز. الماچستر إليريو ينتظرك على المائدة خلال ساعة».
أسندَ تيريون ظَهره إلى الوسائد، ووضعَ رأسه بين يديه متسائلًا: «هل أحلمُ أم أنكِ تتكلَّمين العاميَّة؟».
- «نعم يا سيِّدي. لقد اشتُريتُ للتَّرفيه عن الملك». الفتاة حسناء زرقاء العينين، شابَّة وغضَّة.
- «أنا واثق بأنكِ رفَّهتِ عنه. أريدُ كوبًا من النَّبيذ».
قالت وهي تصبُّ له: «الماچستر إليريو قال أن أفرك ظَهرك وأدفِّئ فِراشك. اسمي...».
- «... لا يهمُّني. هل تعرفين أين تذهب العاهرات؟».
احمرَّ وجهها، وقالت: «العاهرات يبعن أنفسهن مقابل المال».
- «أو الجواهر، أو الفساتين، أو القلاع. لكن أين يذهبن؟».
ردَّت الفتاة التي لم تستوعب السُّؤال: «أهذه أحجية يا سيِّدي؟ لستُ بارعةً في الأحاجي. هلَّا أخبرتني بالإجابة؟».
لا. إنني أبغضُ الأحاجي عن نفسي. «لن أخبركِ بشيء، فأسدي لي الصَّنيع نفسه». كادَ يقول لها: الجزء الوحيد الذي يهمُّني فيكِ هو الذي بين ساقيكِ، وكانت الكلمات على لسانه بالفعل، لكنها لسببٍ ما لم تَخرُج من بين شفتيه، وقال القزم لنفسه: إنها ليست شِاي، بل مجرَّد حمقاء صغيرة تحسبني ألعبُ بالأحاجي. الحقيقة أن فرجها نفسه لا يهمُّه لهذه الدَّرجة. لا بُدَّ أنني مريض، أو ميت. «هل ذكرتِ حمَّامًا؟ يجب ألَّا نَترُك تاجر الجُبنة العظيم منتظرًا».
في أثناء استحمامه غسلَت الفتاة قدميه وفركَت ظَهره ومشَّطت شَعره، وبعدها دهنَت رَبلتَي ساقيه بمرهمٍ عطِر الرَّائحة لتخفيف الألم فيهما، ثم ألبسَته ثياب الصِّبيان مجدَّدًا؛ سراويل خمريَّةً زنخة الرَّائحة، وسُترةً ضيِّقةً من المخمل الأزرق مبطَّنةً بقُماش الذَّهب، وبينما تعقد أربطة حذائه سألَته: «هل سيرغب فيَّ سيِّدي بعد أن يأكل؟».
- «لا، لقد فرغتُ من النِّساء». العاهرات.
ضايقَه ألَّا تُبدي خيبة الأمل، وقولها: «إذا كان سيِّدي يُفضِّل غُلامًا فيُمكنني أن أجعل واحدًا ينتظره في الفِراش».
سيِّدي يُفضِّل زوجته، سيِّدي يُفضِّل فتاةً اسمها تايشا. «فقط إذا كان يعرف أين تذهب العاهرات».
زمَّت الفتاة شفتيها، فقال لنفسه: إنها تحتقرني، ولكن ليس أكثر مما أحتقرُ نفسي. لا يرتاب تيريون لانستر على الإطلاق في أنه ضاجعَ نساءً كثيرات يكرهن مجرَّد منظره، لكن الأخريات كُنَّ على الأقل بالكياسة الكافية لادِّعاء العاطفة. قد يكون القليل من الاحتقار الصَّادق منعشًا، كالنَّبيذ اللَّاذع بعد الكثير من الحُلويات.
قال لها: «أعتقدُ أنني غيَّرتُ رأيي. انتظريني في الفِراش، عاريةً إذا سمحتِ. سأكون أكثر ثملًا من أن أستطيع خلع ثيابكِ»، ونظرَ إليها شزرًا آملًا أن يتذوَّق شيئًا من خوفها، لكنه لم ينَل منها إلَّا الاشمئزاز. لا أحد يخشى الأقزام. حتى اللورد تايوين لم يخَف مع أن تيريون كان يحمل نُشَّابيَّةً. سألَ خادمة الفِراش: «هل تتأوَّهين عند النِّكاح؟».
- «إذا كان هذا يسرُّ سيِّدي».
- «قد يسرُّ سيِّدي أن يَخنُقكِ. هذا ما فعلته بعاهرتي الأخيرة. هل تحسبين أن سيِّدكِ سيعترض؟ لا بالتَّأكيد. إن عنده مئةً منكِ، لكن لا أحد آخَر مِثلي».
وعندما رماها بابتسامته العريضة هذه المرَّة نالَ الخوف الذي أرادَه.
كان إليريو مستريحًا على أريكةٍ مبطَّنة، يلتهم الفلفل الحار والبصل اللُّؤلؤي من وعاءٍ خشبي، وقد نضحَ جبينه بالعَرق والتمعَت عيناه الخنزيريَّتان فوق وجنتيه اللَّحيمتين، وتراقصَت الجواهر على يديه مع حركتهما؛ جزْع وأوپال، وعين نمر وتورمالين، وياقوت وجمَشت، وصفِّير وزمرُّد، وسبَج ويَشب، وماسة سوداء ولؤلؤة خضراء. قال تيريون لنفسه متأمِّلًا: يُمكنني أن أعيش سنينًا على ثَمن خواتمه، وإن كنتُ سأحتاجُ إلى ساطور لآخذها.
أشارَ له إليريو بالاقتراب قائلًا: «تعالَ واجلس يا صديقي الصَّغير».
صعد القزم على مقعدٍ، ولو أنه وجدَه كبيرًا عليه للغاية، عرشًا مكدَّسة عليه الوسائد صُنِعَ لاستيعاب أرداف الماچستر الهائلة، وله أقدام سميكة متينة تتحمَّل وزنه. لقد عاشَ تيريون لانستر حياته بأكملها في عالمٍ كبير عليه للغاية، لكن في ضيعة إليريو موپاتيس اتَّخذ إحساسه بالتَّفاوُت أبعادًا لا تُصدَّق. أنا فأر في عرين ماموث، لكن على الأقل عند الماموث قبوًا مليئًا بالخيرات. أشعرَته الفكرة بالعطش، فطلبَ نبيذًا.
سألَه إليريو: «هل استمتعت بالفتاة التي أرسلتها إليك؟».
- «لو أردتُ فتاةً لطلبتها».
- «إذا تخاذلَت عن إسعـ...».
- «بل فعلَت كلَّ المطلوب منها».
- «كان هذا أملي. لقد تلقَّت تدريبها في (لِيس)، حيث يجعلون من الحُبِّ فنًّا. الملك استمتعَ بها كثيرًا».
قال تيريون: «إنني أقتلُ الملوك، ألم تسمع؟»، وابتسمَ بشرٍّ من فوق كأسه مضيفًا: «لستُ أريدُ فضلاتٍ ملكيَّةً».
- «كما تشاء. لنأكل إذن»، وصفَّق إليريو فجاءَ الخدم مسرعين.
بدآ بمرق سرطان البحر وسَمك الرَّاهب، بالإضافة إلى حَساء بيضٍ وليمون أخضر بارد، ثم رُصَّت أطباق السُّمَّان بالعسل، ولحم ظَهر الحملان، وكبد الإوز الغارق في النَّبيذ، والجزر الأبيض بالزُّبدة، والخنازير الرَّضيعة. أصابَ منظر كلِّ هذه الأصناف تيريون بالغثيان، لكنه أجبرَ نفسه على تجربة ملعقةٍ من الحَساء على سبيل الأدب، وحالما تذوَّقها ضاعَ تمامًا. ربما تكون الطَّاهيتان عجوزتين سمينتين، لكنهما تعرفان عملهما. إنه لم يأكل بهذه الشَّهيَّة من قبل قَطُّ، حتى في البلاط الملكي.
بينما يمتصُّ اللَّحم من على عظم طائره سألَ إليريو عن استدعاء الأمير هذا الصَّباح، فهزَّ الرَّجل البدين كتفيه مجيبًا: «ثمَّة متاعب في الشَّرق. (أستاپور) و(ميرين) سقطَتا، مدينتان جيسكاريَّتان كانتا عجوزين والعالم ما زالَ شابًّا».
قطَّع أحد الخدم الخنزير الرَّضيع، فتناولَ إليريو قطعةً من الشِّواء وغمسَها في صلصة البرقوق وأكلَها بأصابعه.
غرسَ تيريون طرف سكِّينه في قطعةٍ من كبد الإوز قائلًا: «(خليج النخَّاسين) بعيد جدًّا عن (پنتوس)». ما من أحدٍ ملعون كقاتِل الأقربين، ولكن بإمكاني أن أحبَّ هذا الجحيم.
قال إليريو: «صحيح، لكن العالم شبكة واحدة عظيمة، والمرء لا يجرؤ على لمس خيطٍ واحد خشية أن تهتزَّ الخيوط الأخرى كلُّها. مزيد من النَّبيذ؟»، ثم ألقى قرنًا من الفلفل في فمه، وأردفَ: «لا، شيء أفضل»، وعادَ يُصفِّق.
دخلَ خادم على إثر الصَّوت حاملًا طبقًا مغطًّى ووضعَه أمام تيريون، ومالَ إليريو عبر المائدة يرفع الغطاء، ثم أعلنَ الماچستر إذ فاحَت الرَّائحة: «فِطر مقبَّل بالثُّوم ومحمَّم بالزُّبدة. قيلَ لي إن مذاقه بديع. كُل واحدةً يا صديقي، كُل اثنتين».
كانت حبَّة الفِطر الأسود الكبيرة في منتصَف الطَّريق إلى فم تيريون بالفعل، لكن شيئًا ما في نبرة إليريو جعلَه يتوقَّف فجأةً، وقال دافعًا الطَّبق نحو مضيفه: «بعدك يا سيِّدي».
بدوره دفعَ الماچستر إليريو طبق الفِطر نحوه قائلًا: «لا، لا»، وللحظةٍ خاطفة بدا كأن فتى خبيثًا يطلُّ من داخل جسد تاجر الجُبنة المنتفخ. «بعدك. أنا مصرٌّ. الطَّاهية أعدَّته خصِّيصًا من أجلك».
- «حقًّا؟». تذكَّر الطَّاهية والدَّقيق على يديها وثدييها الثَّقيلين وعروقهما الزَّرقاء الدَّاكنة. «هذا لُطف منها، لكن... لا»، وبتؤدةٍ أعادَ تيريون حبَّة الفِطر إلى بحيرة الزُّبدة التي خرجَت منها.
قال إليريو مبتسمًا من تحت لحيته الصَّفراء المتشعِّبة: «يا لك من شكَّاك». يظنُّ تيريون أنه يدهن لحيته هذه بالزُّيوت كلَّ يومٍ ليجعلها تلمع كما الذَّهب. «أأنت جبان؟ لم أسمع ذلك عنك».
- «في (الممالك السَّبع) يعدُّ قتل ضيفك على العَشاء بالسُّمِّ خرقًا عظيمًا لأصول الضِّيافة».
تناولَ إليريو موپاتيس كأسه قائلًا: «وهنا أيضًا، لكن حين تبدو رغبة الضَّيف في إنهاء حياته واضحةً جليَّةً فعلى مضيفه أن يُلبِّيها، أليس كذلك؟»، وجرعَ من النَّبيذ، ثم تابعَ: «الماچستر أوردلو ماتَ مسمومًا بحبَّة فِطر قبل أقلِّ من نِصف عام. قيلَ لي إن الألم ليس شديدًا. مغص خفيف، وألم مفاجئ وراء العينين، ثم ينتهي كلُّ شيء. الفِطر أفضل من سيفٍ في العُنق، أليس كذلك؟ لِمَ تموت وفي فمك مذاق الدَّم في حين يُمكن أن يكون مذاق الزُّبدة والثُّوم؟».
أمعنَ القزم النَّظر إلى الطَّبق أمامه، وقد أسالَت رائحة الثُّوم والزُّبدة لُعابه. جزء منه يُريد هذا الفِطر على الرغم من معرفته بحقيقته. إنه ليس بالشَّجاعة الكافية لأن يُغمِد الحديد البارد في بطنه، لكن قضمةً من الفِطر لن تكون بتلك الصُّعوبة، وقد أخافَه هذا لدرجةٍ لا يستطيع التَّعبير عنها. سمعَ نفسه يقول: «أنت مخطئ».
- «حقًّا؟ يا هل تُرى! إذا كنت تُحبِّذ الغرق في النَّبيذ فقُل وستنال ما تُريد، وبسرعة. الغرق كأسًا كأسًا مضيعة للوقت والنَّبيذ».
كرَّر تيريون بصوتٍ أعلى: «أنت مخطئ». كان الفِطر الدَّاكن يلتمع بإغراءٍ في ضوء المصباح. «لستُ راغبًا في الموت، أؤكِّدُ لك. إن عندي...»، لكن صوته تاهَ في غياهب الحيرة. ما الذي عندي؟ حياة أعيشها؟ عمل أؤدِّيه؟ أطفال أربِّيهم؟ أرض أحكمها؟ امرأة أحبُّها؟
أنهى الماچستر إليريو عبارته قائلًا: «ليس عندك شيء، لكننا نستطيع أن نُغيِّر هذا»، والتقطَ حبَّة فِطر من الزُّبدة ومضغَها بتلذُّذ، ثم قال: «شهيَّة».
مستاءً قال تيريون: «الفِطر ليس مسمومًا».
قال الماچستر إليريو: «نعم. لِمَ أتمنَّى لك الأذى؟»، وأكلَ حبَّةً أخرى مردفًا: «يجب أن يُبدي كلانا القليل من الثِّقة. هلمَّ، كُل»، ومن جديدٍ صفَّق مضيفًا: «إن أمامنا عملًا، ويجب أن يحتفظ صديقي الصَّغير بقوَّته».
جلبَ الخدم البَلَشون[1] المحشو بالتِّين، وشرائح لحم العجل المسلوق في حليب اللَّوز، والرِّنجة المهروسة بالقشدة، والبصل المحلَّى، وأجبانًا عفِنة الرَّائحة، وأطباقًا من الحلزون وحُلويات العجول، وإوزَّةً سوداء بريشها. رفضَ تيريون الإوزَّة التي ذكَّرته بعَشاءٍ تناوَله ذات مرَّةٍ مع أخته، وإن أكلَ البَلَشون والرِّنجة وعددًا من حبَّات البصل المحلَّى، وكلَّما أفرغَ كأسه ملأَه الخدم من جديد.
- «تشرب نبيذًا كثيرًا جدًّا بالنِّسبة إلى رجلٍ صغير مِثلك».
- «قتل الأقربين عمل يُصيب بالجفاف، يجعلني أعطشُ».
التمعَت عينا البدين كالأحجار الكريمة على أصابعه، وقال: «في (وستروس) من يقولون إن قتل اللورد تايوين كان مجرَّد بداية».
قال القزم: «خيرٌ لهم ألَّا يقولوا هذا على مسمعٍ من أختي وإلَّا وجدوا أنفسهم بلا ألسنة»، ومزَّق رغيفًا من الخُبز نِصفين، وأضافَ: «وخيرٌ لك أن تتوخَّى الحذر في ما تقوله عن عائلتي أيها الماچستر. قاتِل أقربين أو لا، إنني ما زلتُ أسدًا».
بدا أن سيِّد الأجبان وجدَ قوله طريفًا لأقصى درجة، وقد صفعَ فخذه اللَّحيمة قائلًا: «كلُّكم واحد يا معشر الوستروسيِّين، تخيطون حيوانًا ما على قطعةٍ من الحرير وفجأةً تُصبِحون أسودًا أو تنانين أو نسورًا. يُمكنني أن آخذك إلى أسدٍ حقيقي يا صديقي الصَّغير. الأمير يحتفظ بعدَّة أُسودٍ مهيبة في معرض وحوشه. هل ترغب في مشاركتها قفصها؟».
أقرَّ تيريون رغمًا عنه بأن لوردات (الممالك السَّبع) يُبالِغون جدًّا في تقدير رموزهم بالفعل، وهكذا قال مسلِّمًا: «ليكن. اللانستر ليس أسدًا، لكني ما زلتُ ابن أبي، ولي أنا أن أقتل چايمي وسرسي».
قال إليريو بين حلزون وحلزون: «غريب للغاية أن تَذكُر أختك الجميلة. لقد عرضَت الملكة اللورديَّة على من يأتيها برأسك، مهما كان مولده متواضعًا».
ليس هذا أكثر مما توقَّع تيريون، الذي ردَّ: «إذا كنت تنوي قبول عرضها فاجعلها تفتح ساقيها لك أيضًا. أفضل جزءٍ مني لقاء أفضل جزءٍ منها، صفقة عادلة».
قال تاجر الجُبنة: «أفضِّلُ أن أحظى بوزني ذهبًا»، وانفجرَ ضاحكًا بشدَّةٍ حتى إن تيريون خشيَ أن ينفجر، قبل أن يُضيف: «كلُّ ما في (كاسترلي روك) من ذهب، ولِمَ لا؟».
مرتاحًا لأنه لن يغرق في بِركةٍ من الأسماك واللُّحوم نِصف المهضومة، قال القزم: «الذَّهب لك، لكن (الصَّخرة) لي».
قال الماچستر: «بالضَّبط»، وغطَّى فمه يُداري تجشُّؤه القوي، ثم تابعَ: «هل تظنُّ أن الملك ستانيس سيُعطيك إياها؟ بلغَني أنه يُطبِّق القانون بحذافيره. أخوك يرتدي المعطف الأبيض، أي أنك الوريث حسب قوانين (وستروس) كلِّها».
قال تيريون: «قد يمنحني ستانيس (كاسترلي روك) حقًّا، لولا المسألة الصَّغيرة المتعلِّقة بقتل الملك وقتل الأقربين. لقاء هذا سيُقصِّرني رأسًا، وأنا قصير كفايةً بالفعل. لكن لِمَ تحسبني أنوي الانضمام إلى اللورد ستانيس؟».
- «ولِمَ تذهب إلى (الجِدار) إن لم يكن لهذا؟».
حكَّ تيريون أنفه متسائلًا: «ستانيس على (الجِدار)؟ ما الذي يفعل ستانيس على (الجِدار) بحقِّ الجحائم السَّبع؟».
- «يرتجف على ما أظنُّ. الطَّقس أكثر دفئًا في (دورن). ربما كان عليه الإبحار في ذلك الاتِّجاه».
كان تيريون قد بدأ يرتاب في أن غسَّالةً معيَّنةً ذات نمش تعرف من اللُّغة العاميَّة أكثر مما تتظاهَر. «يتصادَف أن مارسلا ابنة أختي في (دورن)، وأفكِّرُ في أن أجعلها ملكةً».
ابتسمَ إليريو فيما غرفَ لهما خدمه الكرز الأسود بالقشدة المحلَّاة، وقال: «ما الذي فعلَته بك تلك الطِّفلة المسكينة حتى تتمنَّى موتها؟».
مجروحًا قال تيريون: «حتى قاتِل الأقربين ليس مطلوبًا منه أن يَقتُل جميع أقربائه! قلتُ أجعلها ملكةً، لم أقل أقتلها».
تناولَ تاجر الجُبنة الكرز بالملعقة قائلًا: «في (ڤولانتيس) يستخدمون عُملةً على وجهها تاج وعلى الوجه الآخَر رأس الموت، لكنها العُملة نفسها. إن توَّجتها تَقتُلها. ربما تنهض (دورن) من أجل مارسلا، لكن (دورن) وحدها لا تكفي، وأنت تعلم هذا إذا كنت بالذَّكاء الذي يُؤكِّده صديقنا».
رمقَ تيريون الرَّجل البدين باهتمامٍ تجدَّد، وقال في قرارة نفسه: إنه محقٌّ في هذا وذلك. إن توَّجتها قتلتها، وأنا أعلمُ هذا. «لم يتبقَّ لي إلَّا المحاولات العبثيَّة. على الأقل هذه المحاولة ستجعل أختي تذرف دموعًا مريرةً».
مسحَ الماچستر إليريو القشدة المحلَّاة عن فمه بظَهر يده السَّمينة، وقال: «الطَّريق إلى (كاسترلي روك) لا يمرُّ بـ(دورن) يا صديقي الصَّغير، ولا يمضي أسفل (الجِدار)، لكنني أؤكِّدُ لك أن هذا الطَّريق موجود».
- «أنا خائن مجرَّد من ممتلكاته وإرثه وقاتِل ملكٍ وقاتِل أقربين». هذا الكلام عن الطُّرق يُضايِقه. هل يحسبها لُعبةً؟
قال إليريو: «ما يفعله ملك يستطيع ملك آخَر أن يُبطِله. في (پنتوس) لنا أمير يا صديقي، يترأَّس الاحتفالات والمآدب ويتجوَّل في المدينة راكبًا هودجًا من العاج والذَّهب، يسبقه ثلاثة حُجَّاب حاملين ميزان التِّجارة الذَّهبي وسيف الحرب الحديدي وكُرباج العدالة الفضِّي، وفي اليوم الأول من كلِّ عامٍ جديد عليه أن يقطف زهرة عذراء الحقول وعذراء البحار»، ومالَ إلى الأمام مستندًا بمرفقيه إلى المائدة، وأكملَ: «لكن إذا حدثَ أن بارَ محصول أو هُزِمنا في حربٍ ننحره إرضاءً للآلهة، ونختار أميرًا جديدًا من بين العائلات الأربعين».
- «ذكِّرني ألَّا أصبح أمير (پنتوس) أبدًا».
- «وهل تختلف ممالككم السَّبع؟ ليس في (وستروس) سلام، لا عدالة، لا إيمان... وقريبًا لا طعام. حين يتضوَّر النَّاس جوعًا ويضيقون ذرعًا بالخوف يبحثون عن مُنقذ».
- «لهم أن يبحثوا، لكن إذا لم يجدوا إلَّا ستانيس...».
اتَّسعت الابتسامة الصَّفراء إذ قال الماچستر: «ليس ستانيس ولا مارسلا، غيرهما. أقوى من تومن، وأرحم من ستانيس، وأحقُّ من الفتاة مارسلا. مُنقذ من وراء البحر يُداوي جراح (وستروس) التي تذرف الدِّماء».
ردَّ تيريون بلا تأثُّر: «كلام جميل، والكلام هواء. ومن هذا المُنقذ اللَّعين؟».
قال تاجر الجُبنة: «تنِّين»، ولمَّا رأى النَّظرة على وجهه ضحكَ مضيفًا: «تنِّين له ثلاثة رؤوس».


[1] البَلَشون طائر شهير بصوته العذب، ويُعرَف أيضًا باسم مالك الحزين. (المُترجم).

هناك تعليق واحد:

مقتطف من ترجمة غير منشورة لـ«سيِّد الخواتم»

چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم» واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي، الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في ا...