الثلاثاء، 20 أغسطس 2019

مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»

الكتاب الخامس من «أغنية الجليد والنار»
نهاية العام، عن دار التنوير
ترجمة: هشام فهمي


مرَّ نِصف الصَّباح قبل أن يظهر اللورد چانوس ملبِّيًا الأمر. كان چون يُنظِّف سيفه (المخلب الطَّويل)، وهو العمل الذي عادةً ما يُكلَّف به وكيل أو مُرافق، لكن اللورد إدارد علَّم أبناءه العناية بأسلحتهم بأنفُسهم. حين وصلَ كِجز وإد الكئيب مع سلينت شكرَهما چون ودعا اللورد چانوس إلى الجلوس.
وقد جلسَ، ولكن بفظاظة، عاقدًا ذراعيه على صدره وعابسًا ومتجاهلًا الفولاذ المجرَّد في يد قائده. مرَّر چون قطعة القُماش المزيَّتة على نصل سيفه النَّغل[1] مشاهدًا ضوء الصَّباح يتلاعَب على التَّموُّجات في قلب الفولاذ، ومفكِّرًا في السُّهولة التي يُمكن أن يشقَّ بها النَّصل جِلد وشحم وأوتار سلينت ليفصل رأسه القبيح عن بدنه. عندما ينخرط الرَّجل في حَرس اللَّيل تُغفَر جرائمه كلُّها ويتخلَّى عن ولاءاته جميعها، إلَّا أن چون يجد التَّفكير في چانوس سلينت باعتباره أخًا عسيرًا. إن بيننا دم. هذا الرَّجل ساعدَ على قتل أبي وبذلَ قصارى جهده لقتلي أيضًا.
دسَّ چون سيفه في غِمده قائلًا: «لورد چانوس، إنني أولِّيك القيادة في (الحارس الرَّمادي)».
باغتَ قوله سلينت الذي ردَّ: «(الحارس الرَّمادي)... (الحارس الرَّمادي) هو المكان الذي تسلَّقت (الجِدار) عنده مع أصدقائك الهَمج...».
- «نعم. لا أنكرُ أن القلعة في حالةٍ مؤسفة، لكنك ستُجدِّدها وتُرمِّمها قدر استطاعتك. ابدأ بقطع أشجار الغابة، وخُذ الحجارة من المباني التي سقطَت لإصلاح تلك التي لا تزال قائمةً». كان ليُضيف: سيكون العمل شاقًّا للغاية. ستنام على الحجر، أكثر إرهاقًا من أن تشكو أو تتآمَر، وسرعان ما ستنسى معنى الدِّفء، ولكن قد تتذكَّر معنى أن تكون رجلًا. «سيكون معك ثلاثون رجلًا، عشرة من هنا وعشرة من (بُرج الظِّلال) وعشرة أعارَنا إياهم الملك ستانيس».
اصطبغَ وجه سلينت بلون البرقوق المجفَّف، وبدأ لُغده اللَّحيم يرتجف وهو يقول: «أتحسبني لا أرى ما تفعله؟ چانوس سلينت ليس بالرَّجل الذي ينخدِع بسهولة. لقد كُلِّفتُ بالدِّفاع عن (كينجز لاندنج) وأنت لا تزال تبول في قِماطك. احتفظ بأطلالك أيها النَّغل».
إنني أعطيك فُرصةً يا سيِّدي، وهذا أكثر مما أعطيت أبي. «أسأت فهمي يا سيِّدي. هذا أمر لا طلب. المسافة إلى (الحارس الرَّمادي) أربعون فرسخًا. احزم أسلحتك ودرعك وودِّع أصدقاءك واستعدَّ للرَّحيل مع مطلع الفَجر غدًا».
قال اللورد چانوس: «لا»، وهبَّ واقفًا مسقطًا مقعده إلى الوراء، وتابعَ: «لن أذهب ذليلًا لأتجمَّد وأموت. لا نغل ابن خائن يُملي الأوامر على چانوس سلينت! أحذِّرك، إنني لستُ عديم الأصدقاء، هنا وفي (كينجز لاندنج) أيضًا. لقد كنتُ سيِّد (هارنهال)! أعطِ أطلالك لأحد الحمقى العميان الذين صوَّتوا لك، أمَّا أنا فلن أسمح لك. هل تسمعنى أيها الصَّبي؟ لن أسمح لك!».
- «ستفعل».
لم يُحاوِل سلينت مجرَّد الرَّد، لكنه ركلَ المقعد إلى الجانب في طريقه وهو خارج.
ما زالَ يراني صبيًّا، صبيًّا أخضر تُرهِبه الكلمات الغاضبة. ليس بوسعه إلَّا أن يأمل أن ينام اللورد چانوس اللَّيلة ويصحو ثائبًا إلى رُشده.
لكن الصَّباح التَّالي أثبتَ له أن أمله كان عبثًا.
وجدَ چون سلينت يتناوَل فطوره في القاعة العامَّة ومعه السير أليسر ثورن وعدد كبير من أنصارهما. كانوا يضحكون على شيءٍ ما عندما نزلَ چون السَّلالم مع إميت الحديدي وإد الكئيب، ووراءهم مولي والجواد وچاك كراب الأحمر ورستي فلاورز وأوين الجحش. كان هوب ذو الثَّلاثة أصابع يغرف الثَّريد من قِدره، وقد جلسَ رجال الملكة ورجال الملك والإخوة السُّود إلى موائدهم يأكلون من أوعية الثَّريد أو يملأون بطونهم بالخُبز المحمَّر واللَّحم المقدَّد. رأى چون پيپ وجرِن جالسيْن إلى مائدةٍ وباون مارش إلى أخرى، وشمَّ في الهواء رائحة الدُّخان والشَّحم، وسمعَ أصداء جلبة السَّكاكين والملاعق تتردَّد على السَّقف المقنطَر.
همدَت الأصوات جميعًا في الحال، وقال چون: «لورد سلينت، سأعطيك فُرصةً أخيرةً. ضَع هذه الملعقة واذهب إلى الاسطبلات. لقد أمرتهم بتجهيز حصانك بالسَّرج واللِّجام. الطَّريق إلى (الحارس الرَّمادي) طويل وعر».
ردَّ سلينت: «عليك بالذَّهاب إذن أيها الصَّبي»، وضحكَ مسقطًا الثَّريد على صدره، قبل أن يُردِف: «أظنُّ أن (الحارس الرَّمادي) مكان ملائم لأمثالك، بعيدًا عن القوم الأتقياء الصَّالحين. إن علامة الوحش عليك أيها النَّغل».
- «هل تَرفُض طاعة أمري؟».
قال سلينت ولُغده يرتجف: «يُمكنك أن تدسَّ أمرك في مؤخِّرتك أيها النَّغل».
ارتسمَت بسمة رفيعة على شفتَي أليسر ثورن وركَّز عينيه السَّوداوين على چون، في حين بدأ جودري قاتِل العمالقة الجالس إلى مائدةٍ أخرى يضحك.
قال چون: «كما تُريد»، وأومأَ برأسه لإميت الحديدي قائلًا: «من فضلك خُذ اللورد چانوس إلى (الجِدار)...».
... واحبسه في زنزانةٍ جليديَّة. كان ليقول هذا، فلا شكَّ لديه في أن يومًا أو عشرةً من الحبس داخل الجليد كفيلة بترك سلينت مرتجفًا محمومًا يتوسَّل إطلاق سراحه. وما إن يَخرُج سيبدأ هو وثورن التَّآمُر من جديد.
... وقيِّده إلى حصانه. كان ليقول هذا أيضًا، فإذا كان سلينت لا يرغب في الذَّهاب إلى (الحارس الرَّمادي) كقائدها فليذهب كطبَّاخها. وعندئذٍ ستكون مسألة وقتٍ قبل أن يتهرَّب. وكم رجلًا سيأخذ معه وقتها؟
وهكذا أنهى چون عبارته: «... واشنُقه».
وغاضَت الدِّماء من وجه چانوس سلينت حتى حاكى لون الحليب وسقطَت الملعقة من بين أصابعه.
قطعَ إد وإميت القاعة بخُطواتٍ رنَّت على أرضيَّتها الحجريَّة، وانفتحَ فم باون مارش وانغلقَ دون أن تَخرُج منه كلمة، ومدَّ السير أليسر ثورن يده إلى مقبض سيفه، ففكَّر چون الذي علَّق مخلبه الطَّويل على ظَهره: هلمَّ، جرِّد فولاذك، أعطِني سببًا لأفعل المِثل.
 نهضَ نِصف من في القاعة من رجال، الفُرسان والجنود الجنوبيُّون، المُخلصون للملك ستانيس أو المرأة الحمراء أو الاثنين، وإخوان حَرس اللَّيل المحلَّفون. بعضهم اختارَ چون قائدًا، وبعضهم صوَّت لباون مارش أو السير دينس ماليستر أو كوتر پايك... وبعضهم لچانوس سلينت. مئات منهم كما أذكرُ. تساءلَ چون كم من هؤلاء الرِّجال في القبو الآن، وللحظةٍ تراقصَ العالم على حافة سيف.
ثم رفعَ أليسر ثورن يده عن سيفه وأفسحَ الطَّريق لإد توليت.
قبضَ إد الكئيب على ذراع سلينت وإميت الحديدي على الثَّانية، ومعًا سحباه من على الدِّكَّة، ومحتجًّا صاحَ اللورد چانوس والثَّريد يتناثَر من بين شفتيه: «لا، لا، اترُكاني. إنه مجرَّد صبي، إنه نغل! أبوه كان خائنًا. علامة الوحش عليه، ذئبه هذا... اترُكاني! ستندمان على اليوم الذي وضعتما فيه يدًا على چانوس سلينت. إن لي أصدقاء في (كينجز لاندنج). أحذِّركما...»، وظلَّ يعترض وهما يصعدان به على السَّلالم بحركةٍ هي تارة جرٌّ وتارة دفْع.
تبعَهم چون إلى الخارج، ومن ورائه فرغَ القبو من شاغليه. عند القفص تملَّص سلينت لحظةً وحاولَ أن يُحوِّل الأمر إلى قتال، لكن إميت أمسكَه من عُنقه وضربَ به القضبان الحديد إلى أن أمسكَ عن المقاوَمة، وعندئذٍ كانت (القلعة السَّوداء) كلُّها خرجَت تتفرَّج، حتى ڤال في نافذتها وقد تدلَّت ضفيرتها الذَّهبيَّة من على كتفها، وستانيس الذي وقفَ على درجات (بُرج الملك) محاطًا بفُرسانه.
سمعوا اللورد چانوس يقول: «إذا كان الصَّبي يحسب أنه سيُخيفني فهو مخطئ. لن يجرؤ على شنقي. چانوس سلينت له أصدقاء، أصدقاء مهمُّون، سترون...»، وذرَت الرِّيح بقيَّة عبارته.
فكَّر چون: هذا خطأ، ثم قال: «توقَّف».
التفتَ إليه إميت مقطِّبًا وجهه، وغمغمَ: «سيِّدي؟».
قال چون: «لن أشنقه. أحضِره إلى هنا».
وسمعَ باون مارش يصيح: «أوه، بحقِّ الآلهة».
حملَت الابتسامة التي ابتسمَها اللورد چانوس سلينت لحظتها كلَّ ما في الزُّبدة الفاسدة من حلاوة... إلى أن أضافَ چون: «إد، اجلب لي قُرمةً»، واستلَّ مخلبه الطَّويل.
لدى عثور إد على قُرمةٍ مناسبة كان اللورد چانوس قد تراجعَ إلى داخل القفص من جديد، لكن إميت الحديدي دخلَ وراءه وسحبَه إلى الخارج، وفيما جرَّه إميت ودفعَه عبر السَّاحة صاحَ سلينت: «لا. اترُكني... لا يُمكنك... حين يسمع تايوين لانستر بهذا ستندمو...».
ركلَ إميت ساقيه من تحته، ثم ثبَّت إد الكئيب قدمه على ظَهره ليُبقيه على رُكبتيه فيما دفعَ إميت القُرمة تحت رأسه، وقال له چون سنو: «سيكون الأمر أسهل إذا بقيت ساكنًا. تحرَّك لتفادي الضَّربة وستموت أيضًا، لكن ميتتك ستكون أقبح. مدَّ عُنقك يا سيِّدي». تلاعبَ ضوء الصَّباح الشَّاحب على نصله إذ أحكمَ چون كلتا يديه على مقبض سيفه النَّغل ورفعَه عاليًا، قبل أن يقول متوقِّعًا سبَّةً أخيرةً: «إذا كانت لديك كلمات أخيرة فالآن الوقت المناسب لقولها».
لوى چانوس سلينت رقبته ليَنظُر إليه قائلًا: «أرجوك يا سيِّدي، الرَّحمة. سـ... سأذهبُ، سأذهبُ، سـ...».
قال چون في نفسه: لا، لقد أغلقت ذلك الباب، وهوى مخلبه الطَّويل.
وسألَ أوين الجحش ورأس چانوس سلينت يتدحرَج على الأرض الموحلة: «هل يُمكنني أن آخذ حذاءه؟ إنه جديد تقريبًا، ومبطَّن بالفرو».
ألقى چون نظرةً إلى الوراء نحو ستانيس، وللحظةٍ التقَت أعيُنهما، ثم أومأَ الملك برأسه وعادَ يَدخُل بُرجه.


[1] السَّيف النَّغل مصطلح يُطلَق في عالمَي الواقع والرِّواية على السَّيف الذي يقع حجمه بين السَّيف الطَّويل والسَّيف العظيم الذي يُحمَل باليدين، ويُطلَق عليه أيضًا «يد ونصف». يُلاحَظ أن (المخلب الطَّويل) أقرب إلى السَّيف العظيم، لكنه يُحمَل بيدٍ واحدة. (المُترجم).

هناك 3 تعليقات:

  1. الترجمة الممتعة تجعل المتابع شغوفا بقراءة الكتاب كاملا، ولا ادري، اعتقد ان الرواية باجزاءها اكثر تشويقا من المسلسل الممل.

    ردحذف
  2. "الرجل الذي يصدر الحكم عليه أن يلوح بالسيف"

    ردحذف

مقتطف من ترجمة غير منشورة لـ«سيِّد الخواتم»

چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم» واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي، الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في ا...