خلال الأسبوع الماضي، وبينما استقرَّ الوباء في سياقاتٍ مختلفة في أنحاء
العالم، وجدتُ نفسي أحكي قصَّة «الإنفلونزا الإسپانيَّة» في مصر، جزئيًّا لأن شيئًا
من الانتقاد قد وُجِّه إلى الطريقة التي تعاملت بها الحكومة المصريَّة الحاليَّة
مع الوباء، وهو ما سبَّب بعض التساؤلات عن كيفيَّة التعامل مع مواقف مشابهة سابقة.
ماذا كانت «الإنفلونزا الإسپانيَّة»؟
أولًا، لنتذكَّر جميعًا أنها سُمِّيَت الإنفلونزا الإسپانيَّة، لأن صحافة
إسپانيا غير الخاضعة للرقابة كانت أول من كتب عن طبيعة الڤيروس غير المعتادة في
ربيع 1918. لم يظهر الڤيروس في إسپانيا أولًا، ولا -كما حاول أحدهم أن يُجادلني
على تويتر قبل أسابيع قليلة- اكتسب الاسم لأنه قتل أناسًا في إسپانيا أكثر من أيِّ
مكانٍ آخر.
ظلَّت الإنفلونزا الإسپانيَّة وباءً عالميًّا حتى 1920، وقد ضربت العالم في
ثلاث موجات. كانت الثانية أشدَّها فتكًا، ولو أن الموجات الثلاث جميعًا حملَت نفس منحنى
الوفيَّات غير المعتاد. علاوةً على الصغار والمسنِّين، لُوحظ أعلى معدَّلات
الوفيَّات بين سِنَّي الخامسة عشرة والخامسة والعشرين. كان الڤيروس سلالة متحوِّرة
من إنفلونزا الطيور H1N1، وقد تسبَّب
في أن يسعل ضحاياه الدم أو يبصقوه، وأن يتحول لون وجوههم إلى الأرجواني أو الأسود.
متى ضرب الوباء مصر؟
ظهرت الموجة الأولى في مصر في وقتٍ ما في أواخر الربيع، في حدود مايو أو
يونيو، ولم تجذب انتباهًا اللهم إلَّا التعليق على ظهور المرض في وقتٍ غير معتاد
من السنة، وتوصية مديريَّة الصحَّة العامة (التابعة لوزارة الداخليَّة) ببقاء
الناس في البيوت إذا كانوا مرضى.
لم تضرب الموجة المميتة البلاد حتى نهاية أكتوبر، في الفترة التي وُقِّعَت
فيها معاهدة موردوس، التي أنهَت مشاركة الإمبراطوريَّة العثمانيَّة في الحرب
العالميَّة الأولى، واستمرَّ أشد أطوار الوباء فتكًا حتى بعد الكريسماس بقليل، مخلِّفًا
عددًا كبيرًا من الضحايا خلال الأسابيع الثمانية الأخيرة من 1918.
أمَّا الموجة الثالثة فمذكورة بإيجازٍ شديد في الصحافة، مباشرةً بعد القبض
على سعد زغلول في مارس 1919، وتُشير الإحصاءات الحيويَّة –القليل المتاح منها- إلى
أن الموجة الثالثة لم تكن بذلك السوء، لكن بالوضع في الاعتبار حقيقة أن الثورة
تفجَّرت في البلاد، مسبِّبة إغلاق الوزارات حتى منتصف العام، فمعرفة الحقيقة
يقينًا مستحيلة.
كيف تعاملت الحكومة المصريَّة مع الوباء؟
في ذلك الحين كانت مصر تحت الحماية البريطانية، فالنظام المعروف بـ«الاستعمار
المقنَّع»، الذي أدار فيه البريطانيُّون مصر مع الإعلان زورًا أنها إقليم مستقل
تابع للعثمانيِّين، قد سقط مع إعلان بريطانيا الحرب على الإمبراطوريَّة
العثمانيَّة، والعكس بالعكس، في نوڤمبر 1914. أُعلِنَت مصر حاميةً بريطانيَّةً -وهكذا
ظلَّت حتى 1923- ووُضِعَت تحت الأحكام العُرفيَّة في ديسمبر 1914 (ثم ألغاها الچنرال
ألنبي في مايو 1919 دلالةً على حُسن النيَّة).
المشكلة في مصر، وغيرها من المستعمرات البريطانيَّة، أن المسؤولين
الاستعماريِّين قد استُدعوا لأداء الواجب الحربي، وأُرسل كثيرون منهم إلى فلسطين مع
حملة ألنبي التي بدأت في خريف 1917، وبقوا هناك في الوقت الذي وصل فيه أشد موجات
الوباء فتكًا إلى البلاد بعد عام، وهو ما تضمَّن عددًا كبيرًا من قيادات مديريَّة
الصحَّة العامَّة، علاوةً على غالبيَّة المسؤولين الطبيِّين، الذين كان عملهم
الإشراف على تقديم الخدمات الصحيَّة للمدنيِّين.
ببساطة، خلال معظم الحرب، كانت حاجات
المدنيِّين الطبيَّة شأنًا أقل أهميَّة بكثير من حاجات العسكريِّين الطبيَّة.
وهكذا، حين ضرب الوباء مصر، وجدَت الحكومة الأنجلو-مصريَّة نفسها في
مواجهته بلا أدنى استعداد. اجتيحَت المستشفيات والعيادات بالمرضى، وتحوَّل لقاء في
بلديَّة الإسكندريَّة في بداية نوڤمبر إلى مندبةٍ طالب فيها المواطنون بسيطرةٍ أشد
على الوباء.
لم تُنشر التوجيهات الأساسيَّة على العامَّة قبل منتصف نوڤمبر. ظلَّت
المدارس مفتوحة حتى بدايات ديسمبر، وأُغلقت الأسواق والمحاكم والجامعات. نشرَت
مجالس المدن والحكومات الإقليميَّة تعليمات، غير أن كثيرًا منها بدا اعتباطيًّا، ففي
القاهرة أُغلقت السينمات ولكن ليس المسارح، وأُغلقت البارات ولكن ليس المقاهي، وفي
القاهرة والإسكندريَّة اشتكى الناس من الزحام في خطوط الترام، واعترفَت الحكومة
المحليَّة بضعفٍ أن بيدها القليل للتحكُّم في البيئة.
اضطرَّ الأطباء، الذين كانوا غالبًا مصريِّين ويونانيِّين وسوريِّين، إلى
العمل المجهد لساعاتٍ طويلة، وفي مرحلةٍ ما لاحظت الصحافة أن الأطباء في أسيوط يذهبون
في زياراتٍ منزليَّة مستمرَّة ويعملون أكثر من 15 ساعة في اليوم، وفي الأسبوع
التالي نُشر أن جميع أطباء المدينة أصيبوا بالإنفلونزا ولم يعودوا قادرين على رؤية
المرضى، ونُشر أن في بعض القُرى «لم يكن هناك عمل آخر غير دفن الموتى»، وأن
الإنتاج الزراعي توقَّف.
هل عُلِّقت الشعائر الدينيَّة في 1918 مثلما هي الآن؟
لا أدري! طُرح هذا السؤال مرَّات عدَّة، خاصَّةً مع اقتراب رمضان (الذي لم
يتزامن مع أسوأ أوقات الوباء في 1918). كانت الحكومة الأنجلو-مصريَّة حذرةً للغاية
من مسألة التدخُّل في أمور المفترض أن تتولَّاها وزارة الأوقاف، ولذا عندما أُمر
الأزهر بالإغلاق –وقد أُغلق بالفعل- كان ذلك باعتباره مؤسسةً تعليميَّةً وليس
دارًا للعبادة.
أُلغيت الاحتفالات العامَّة بمولد النبي، وكذا تصريحات المواكب الدينيَّة
والجنازات.
كم شخصًا مات؟
العدد الرسمي 138 ألفًا، أكثر من %1 من سكَّان مصر، حسب الإحصاء الذي أُجري
في 1917.
ومع ذلك، في مقال منشور عام 2002 يحاول جمع عددٍ أدق لضحايا الوباء حول
العالم، يقول الكاتبان إن الطريقة التي اتُّبعت في مصر وغيرها كان تقدير الأعداد
منخفضًا للغاية عادةً، وأحيانًا يصل إلى النصف. تقديري أنا أن العدد الأدق وصل إلى
170 ألفًا.
لُوحظ أعلى معدَّل وفيَّات في مصر في الأشخاص بين سِنَّي العاشرة والعشرين،
وأن المناطق الريفيَّة تأثَّرت أكثر كثيرًا من تلك الحضريَّة، أي أن هؤلاء الضحايا
كانوا جيلًا من الشُّبَّان والشَّابَّات الذين تُركوا للعمل في حقول آبائهم
وإخوتهم الكبار، بعد ذهاب هؤلاء للعمل في أنفار السُّلطة وفِرق الجِمال المصريَّة،
وغيرها من الأعمال المرتبطة بالمجهود الحربي.
أظنُّ حقًّا أن هذا كان أحد الأسباب التي أغضبت سكَّان الريف ودفعتهم إلى
إعلان العصيان حين اندلعت الثورة في 1919، وعلى الأرجح واجه المنظِّمون
السياسيُّون من الوفد وغيره من الأحزاب صعوباتٍ جمَّة لدى ذهابهم إلى الريف.
الغريب تجاهل هذه الإنفلونزا أو حذفها من تواريخ مصر في بدايات القرن
العشرين.
بتصرُّف عن الموضوع الأصلي
ممتاز
ردحذفأعتقد لو تم البحث جيدا في ثنايا الروايات الأدبية في ذلك العصر فيمكن العثور على أثر لذلك الوباء