الكتاب الخامس من «أغنية الجليد والنار»
نهاية العام، عن دار التنوير
ترجمة: هشام فهمي
رفضَ
النَّوم أن يأتي، وما كان يُمكن أن يأتي، وبدلًا منه كانت الرِّيح والبرد القارس
ونور القمر على الثَّلج... والنَّار. لقد عادَ إلى داخل سَمر على بُعد فراسخ
عديدة، واللَّيل يعبق برائحة الدَّم القويَّة. فرائس، وليست بعيدةً. سيكون
اللَّحم دافئًا. سالَ اللُّعاب من بين أسنانه إذ استيقظَ الجوع في أحشائه. ليست
إلكةً، ليست غزالًا، ليست هذه.
تحرَّك
الذِّئب الرَّهيب صوب اللَّحم، ظلٌّ رماديٌّ هزيل ينسلُّ من شجرةٍ إلى أخرى عبر
بِركٍ من نور القمر وفوق تباب الثَّلج. هبَّت الرِّيح حوله مبدِّلةً اتِّجاهها،
ففقدَ الرَّائحة ثم عثرَ عليها قبل أن يفقدها من جديد، وبينما يبحث عنها مرَّةً
أخرى جعلَه صوت بعيد يُرهِف أُذنيه.
علمَ
في الحال أنه صوت ذئب، وقد تقدَّم سَمر نحوه بحذرٍ الآن، وسرعان ما عادَت رائحة
الدَّم، وإن اختلطَت بها روائح أخرى هذه المرَّة، روائح بول وجلود ميتة وخراء طيور
وريش، وذئب، وذئب، وذئب. قطيع. عليه أن يُقاتِل من أجل الظَّفر بلحمه هذا.
الذِّئاب
أيضًا شعرَت بوجوده، وراقبَته إذ خرجَ من ظُلمة الأشجار إلى الأرض الفضاء
الدَّامية. كانت الأنثى تلوك فردة حذاءٍ جِلد ما زالَ فيها نِصف ساق، لكنها
تركَتها تَسقُط مع اقترابه، أمَّا قائد القطيع، وهو ذكر عجوز له خطم أبيض وعين
عمياء، فقد تقدَّم يُقابِله مزمجرًا وكاشفًا أسنانه، ووراءه كشَّر ذكر أصغر عن
أنيابه هو الآخَر.
تشرَّبت
عينا الذِّئب الرَّهيب الصَّفراوان الباهتتان المناظر المحيطة، من المصارين
الملتفَّة على شُجيرة، إلى البُخار المتصاعد من بطنٍ مبقور حاملًا رائحة الدَّم
واللَّحم الغنيَّة، إلى رأسٍ يُحدِّق بلا بصرٍ إلى القمر الهلال وقد مُزِّقَت الوجنتان
حتى العظم وصارَت العينان حُفرتين غائرتين وانتهى العُنق بجَدعةٍ مهترئة.
إلى
بِركة من الدِّماء المتجمِّدة تلتمع بالأسود والأحمر.
بَشر. ملأَت رائحتهم الزَّنخة العالم. في
حياتهم كانوا بعدد أصابع كفِّ الإنسان، لكنهم الآن صِفر. ماتوا، انتهوا، لحم.
من قبل كانوا يرتدون المعاطف والقلنسوات، لكن الذِّئاب مزَّقت ثيابهم إربًا إربًا
في هياجها سعيًا إلى اللَّحم، ومن لا تزال لهم وجوه يُغطِّي لحاهم الجليد والمُخاط
المتجمِّد، وقد بدأ الثَّلج المتساقط يدفن ما تبقَّى منهم، يبدو في غاية الشُّحوب
مقارنةً بسواد معاطفهم وسراويلهم الرثَّة. أسود.
وعلى
بُعد فراسخ عديدة تململَ الصَّبي باضطراب.
أسود، حَرس اللَّيل، كانوا من حَرس اللَّيل.
على
أن الذِّئب الرَّهيب لم يُبالِ. إنه لحم، وهو جائع.
برقَت
أعيُن الذِّئاب الثَّلاثة بالأصفر، وطوَّح الذِّئب الرَّهيب رأسه من جانبٍ إلى
جانبٍ بمنخرين اتَّسعا، ثم كشَّر عن أنيابه زائمًا. تراجعَ الذَّكر الأصغر، وشمَّ
الذِّئب الرَّهيب رائحة الخوف فيه. الذَّيل. لكن الذِّئب الأعور أجابَه
بزمجرةٍ وتقدَّم يصدُّ تقدُّمه. الرَّأس، ولا يخشاني مع أنني في ضِعف حجمه.
التقَت
أعيُنهما.
وارْج!
ثم
انقضَّ الاثنان، الذِّئب والذِّئب الرَّهيب، ولم يَعُد هناك وقت للتَّفكير.
اختُصِرَ العالم في الأسنان والمخالب والثَّلج المتطاير حولهما وهما يتدحرجان
ويدوران ويُحاوِل كلاهما نهش الآخَر، في حين راحَ الذِّئبان المتبقِّيان يزومان
ويُزَمجِران حولهما. انغلقَ فكَّاه على فروٍ أشعث جعلَه الصَّقيع زلقًا، وعلى
قائمةٍ رفيعة كعصا جافَّة، لكن الذِّئب الأعور خمشَ بطنه وحرَّر نفسه، ثم تدحرجَ
وعادَ ينقضُّ. انغلقَت أنياب صفراء حول عُنقه، لكنه نفضَ ابن عمومته الأشهب العجوز
عنه كأنما ينفض جرذًا، ثم انقضَّ عليه وأسقطَه. بين دحرجةٍ وعضٍّ وركلٍ تقاتَلا،
إلى أن تقطَّعت أنفاسهما وتساقطَت الدِّماء على الثَّلج حولهما، لكن في النِّهاية
استلقى الذِّئب الأعور العجوز وكشفَ بطنه، فنهشَ الذِّئب الرَّهيب الهواء في وجهه
مرَّتين، ثم تشمَّم مؤخِّرته ورفعَ ساقًا فوقه.
وبعد
بضع نهشاتٍ وزمجرة إنذار رضخَت الأنثى والذَّيل بدورهما، وأصبحَ القطيع له.
والفرائس
أيضًا. تنقَّل من رجلٍ إلى رجلٍ يتشمَّم قبل أن يستقرَّ على أكبرهم حجمًا، شيء بلا
وجهٍ يقبض بيده على قطعةٍ من الحديد الأسود، وقد غابَت يده الأخرى المقطوعة عند
المعصم ورُبِطَت جَدعتها بالجِلد. من الشَّقِّ في حَلقه سالَ الدَّم ثخينًا
ثقيلًا، وراحَ الذِّئب يَلِغ فيه بلسانه، ولعقَ خراب الأنف والوجنتين في الوجه
الذي ما عادَت له عينان، قبل أن يدفن خطمه في العُنق ويُمزِّقه ويزدرد قطعةً من
اللَّحم الجميل، لحم لم يَذُق في حلاوته مثيلًا.
حين فرغَ من هذه انتقلَ إلى جثَّة الرَّجل
التَّالي والتهمَ أفضل القِطع منها، ومن فوق الأشجار راقبَته الغِدفان الجاثمة
بصمتٍ وأعيُنٍ سوداء على الفروع والثَّلج يَسقُط من حولها. تدبَّرت الذِّئاب
الأخرى أمرها بفُضالته، فأكلَ الذَّكر العجوز أولًا، ثم الأنثى، ثم الذَّيل. إنهم
له الآن، إنهم قطيعه.
همسَ
الصَّبي: لا، إن لنا قطيعًا آخَر. ليدي ماتَت، وربما جراي ويند أيضًا، لكن في
مكانٍ ما شاجيدوج ونايميريا وجوست أحياء. هل تَذكُر جوست؟
بدأت
الثُّلوج والذِّئاب ووليمتها تبهت، وضربَ الدِّفء وجهه باثًّا فيه الرَّاحة
كقُبلات أُم. نار، دُخان. اختلجَ أنفه على إثر رائحة اللَّحم المشوي التي
ملأَته، ثم انسحبَت الغابة ووجدَ نفسه في القاعة الطَّويلة من جديد، في جسده
المكسور يَنظُر إلى نارٍ مشتعلة. كانت ميرا ريد تُدوِّر قطعةً من اللَّحم الأحمر
النَّيئ فوق لهبٍ يسفعها فتُطَقطِق، وقد خاطبَته قائلةً: «في الوقت المناسب». فركَ
بران عينيه بكعب يده وزحفَ إلى الوراء ليجلس مستندًا إلى الحائط، وأردفَت هي:
«كادَ العَشاء يفوتك وأنت نائم. الجوَّال وجدَ خنزيرةً».
وراءها
رأى هودور يلتهم بنهمٍ قطعةً من اللَّحم السَّاخن والدَّم والدُّهن يسيلان
ليتخلَّلا لحيته، وقد تصاعدَت خيوط من الدُّخان من بين أصابعه، وبين كلِّ قضمةٍ
وقضمةٍ يُتَمتِم: «هودور، هودور، هودور»، وإلى جواره كان سيفه موضوعًا على الأرض
التُّرابيَّة، أمَّا چوچن ريد فأكلَ قطعته ببُطءٍ قضمةً قضمةً، يَمضُغ كلَّ واحدةٍ
مرارًا قبل أن يبتلعها.
الجوَّال قتلَ خنزيرًا. كان ذو اليدين الباردتين
واقفًا عند الباب بغُدافٍ على ذراعه وكلاهما يَنظُر إلى النَّار، واللَّهب منعكس
في أربع أعيُنٍ سوداء. قال بران لنفسه متذكِّرًا: إنه لا يأكل، ويهاب النَّار.
قال للجوَّال: «قلت لا نار».
-
«الجُدران المحيطة بنا تُخفي الضَّوء، والفَجر دانٍ. سنُواصِل طريقنا قريبًا».
-
«ماذا حدثَ للرِّجال؟ للأعداء الذين كانوا وراءنا؟».
-
«لن يُزعِجوكم».
-
«مَن كانوا؟ هَمجًا؟».
قلبَت
ميرا اللَّحم لتشوي الجانب الآخَر، وانشغلَ هودور بالمضغ والابتلاع والتَّمتمة
السَّعيدة الخفيضة. وحده چوچن بدا منتبهًا لما يَحدُث إذ التفتَ ذو اليدين الباردتين
برأسه يَرمُق بران قائلًا: «كانوا أعداء».
كانوا رجالًا من حَرس اللَّيل.
«لقد قتلتهم، أنت والغِدفان. كانت وجوههم ممزَّقةً وأعيُنهم مفقوئةً». لم يُنكِر
ذو اليدين الباردتين، فتابعَ بران: «كانوا إخوةً. لقد رأيتهم. الذِّئاب مزَّقت
ثيابهم لكنني استطعتُ تمييزها. كانت معاطفهم سوداء كيديك». لم يقل ذو اليدين
الباردتين شيئًا، فسألَه بران بإلحاح: «مَن أنت؟ ما سبب اسوداد يديك؟».
أمعنَ
الجوَّال النَّظر إلى يديه كأنه لم يرَهما من قبل، ثم أجابَ بصوتٍ أجش، مِثله رفيع
هزيل: «ما إن يكفَّ القلب عن الخفقان تتدفَّق دماء المرء إلى أطرافه حيث تتخثَّر
وتتجمَّد، وتتورَّم يداه وقدماه وتسودَّان كالعجين، أمَّا بقيَّته فتصير بيضاء
كالحليب».
نهضَت
ميرا ريد رافعةً رُمحها الذي ما زالَت قطعة من اللَّحم الدَّاخن مغروسةً فيه،
وقالت: «أرِنا وجهك».
لكن
الجوَّال لم يتحرَّك قيد أُنملة.
قال
بران متذوِّقًا المِرَّة في حَلقه: «إنه ميت. ميرا، إنه شيء ميت ما. الوحوش لا
تستطيع المرور ما دامَ (الجِدار) قائمًا ورجال حَرس اللَّيل مخلصين. هذا ما
اعتادَت العجوز نان قوله. لقد أتى يُقابِلنا عند (الجِدار)، لكنه لم يستطِع
المرور، ولذا أرسلَ سام وتلك الفتاة الهمجيَّة».
أحكمَت
ميرا قبضتها حول قناة الرُّمح، وسألَت الجوَّال: «مَن أرسلَك؟ من هذا الغُراب ذو
الأعيُن الثَّلاث؟».
-
«صديق، حالم، ساحر، يُمكنكم تسميته كما شئتم. إنه آخِر الأنبياء الخُضر».
انفتحَ
باب القاعة الطَّويلة الخشبي بعُنف، وبالخارج عوَت ريح اللَّيل الكئيبة السَّوداء.
كانت الأشجار تعجُّ بالغِدفان الصَّارخة، ولم يتحرَّك ذو اليدين الباردتين.
قال
بران: «وحش».
نظرَ
الجوَّال إلى بران كأنما ليس للآخَرين وجود، وردَّ: «وحشك أنت يا براندون ستارك».
ردَّد
الغُداف من فوق كتفه: «وحشك!»، وخارج الباب تلقَّت الغِدفان الجاثمة على
الأشجار الكلمة، حتى ردَّدت غابة اللَّيل كلُّها صيحة السِّرب: «وحشك، وحشك،
وحشك!».
سألَت
ميرا أخاها: «چوچن، هل حلمت بهذا؟ مَن هو؟ ماذا يكون؟ ماذا نفعل الآن؟».
أجابَها
چوچن: «نذهب مع الجوَّال. لقد قطعنا شوطًا أطول من أن نرجع الآن يا ميرا. لن
نستطيع العودة إلى (الجِدار) أحياء أبدًا. إمَّا أن نذهب مع وحش بران وإمَّا أن
نموت».
شكرا لك لإنك شاركتنا مقطع عن بران
ردحذفهل ستكون متوفرة في الجزائر ؟ مع العلم الجزء الرابع " وليمة للغربان " ما زلت انتظر وصوله الى الجزائر لحد الآن 💔
ردحذفموجود في تونس
حذف