مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»
الكتاب الخامس من «أغنيَّة الجليد والنار»
ترجمة هشام فهمي
نهاية العام، عن دار التنوير
الكتاب الخامس من «أغنيَّة الجليد والنار»
ترجمة هشام فهمي
نهاية العام، عن دار التنوير
مرَّا داخل المدينة بمقار رابطات عُمَّال وأسواق وحمَّامات، وبنوافير
تَنثُر مياهها وتتغنَّى في منتصَف ميادين واسعة، حيث يجلس النَّاس إلى طاولاتٍ
حجريَّة يُحرِّكون قِطع السايڤاس ويشربون النَّبيذ من كؤوسٍ زُجاجيَّة طويلة رفيعة،
فيما يُشعِل العبيد القناديل المنمَّقة لطرد الظَّلام. بطول الطَّريق ينمو
النَّخيل وشجر الأَرز، وعند كلِّ رُكنٍ تقف الأنصاب التَّذكاريَّة، وإن لاحظَ
القزم أن كثيرًا من التَّماثيل بلا رؤوس، ولكن حتى في غياب رؤوسها لا تفتقر إلى
المهابة في أرجوان الغسق.
إذ مضى الجواد الحربي جنوبًا بمحاذاة النَّهر بدأت المحال تصير أصغر حجمًا
وأكثر تواضُعًا، وأصبحَت الأشجار بطول الشَّارع صفًّا من الجذوع المبتورة، وأفسحَت
حجارة الرَّصف الطَّريق للعُشب الشَّيطاني تحت حوافر حصانهما، ثم أفسحَ العُشب
الشَّيطاني الطَّريق بدوره لطميٍ طريٍّ مبتل له لون فضلات الرُّضَّع. صرَّت الجسور
الصَّغيرة الممتدَّة فوق النُّهيرات التي تصبُّ في (الروين) تحت ثقلهم، وحيث كان
حصن يطلُّ على النَّهر في الماضي لم يتبقَّ الآن إلَّا بوَّابة محطَّمة مفغورة كفم
شيخٍ يخلو من الأسنان، ولمحَ تيريون بعض الماعز تَنظُر من الشُّرفات.
(ڤولانتيس) العجوز، ابنة (ڤاليريا) البِكر. (ڤولانتيس) الأبيَّة، ملكة
(الروين) وسيِّدة (بحر الصَّيف)، موطن السَّادة النُّبلاء والسيِّدات الجميلات، أصحاب
الدِّماء الضَّاربة في القِدم. ولا عليك بقطعان
الأطفال العُراة الذين يجوبون الأزقَّة صارخين بأصواتٍ حادَّة تَثقُب الآذان، أو
بمُبارزي البراڤو الواقفين على أبواب الخمَّارات مداعبين مقابض سيوفهم، أو بالعبيد
بظهورهم المحنيَّة ووجوههم الموشومة المهرعين في كلِّ مكانٍ كالصَّراصير. (ڤولانتيس)
القويَّة، أعظم المُدن الحُرَّة التِّسع وأكثرها عمورًا بالسُّكَّان. على أن
الحروب العتيقة أنقصَت أعدادًا كبيرةً من أهل المدينة، وبدأت قطاعات واسعة منها
تغوص في الطَّمي الذي كانت تقف عليه في ما سبقَ. (ڤولانتيس) الجميلة، مدينة
النَّوافير والأزهار. لكن نِصف النَّوافير جفَّ ونِصف أحواض السِّباحة تصدَّع
وملأَته المياه الآسنة، وزحفَت فروع النَّباتات المعترشة المزهرة من كلِّ شَقٍّ في
سورٍ أو رصيف، وغرسَت الأشجار الشَّابَّة جذورها في جُدران المحال المهجورة
والمعابد المكشوفة.
ثم إن هناك الرَّائحة الفوَّاحة في الهواء السَّاخن الرَّطب، قويَّة
نفَّاذة متغلغلة. فيها أسماك وزهور، والقليل من روث الأفيال أيضًا. شيء عطِر
وشيء أرضي وشيء ميت متعفِّن. أعلنَ تيريون: «رائحة هذه المدينة كالعاهرة العجوز،
كبغي مترهِّلة أغرقَت عورتها بالعطر لتقضي على الرَّائحة النَّتنة بين ساقيها.
لستُ أشكو. مع العاهرات، الشَّابَّات رائحتهن أفضل، لكن العجائز يعرفن حيلًا أكثر».
- «تعرف عن هذا أكثر مني».
- «آه، بالطَّبع. والماخور الذي التقينا فيه، هل حسبته سِپتًا؟ التي كانت
تتلوَّى في حِجرك أختك العذراء؟».
دفعَه قوله إلى العبوس، وقال: «احفظ لسانك هذا ما لم تكن تُريدني أن أربطه
لك كالعُقدة».
ابتلعَ تيريون ردَّه. ما زالَت شفته متورِّمةً منذ آخِر مرَّةٍ بالغَ فيها
في استفزاز الفارس. اليدان الصُّلبتان وغياب حسِّ الفُكاهة مزيج لا يأتي منه
خير. تعلَّم هذا على الطَّريق من (سلهوريس). ذهبَت أفكاره إلى حذائه والفطر
المخبَّأ في الإصبع الكبير. لم يُفتِّشه آسِره بالدِّقَّة التي يحسبها. هذا المهرب
متاح دومًا. على الأقل لن تنالني سرسي حيًّا.
مع توغُّلهما جنوبًا بدأت علامات الازدهار تظهر من جديد. قلَّت المباني
المهجورة، واختفى الأطفال العُراة، وارتدى مُبارزو البراڤو الواقفون في المداخل ثيابًا
أكثر أناقةً، وبدا بعض الخانات التي مرَّا بها كأمكنةٍ يستطيع المرء أن ينام فيها
بلا خوفٍ من الذَّبح. على طريق النَّهر تتدلَّى القناديل من قوائم حديديَّة
وتتأرجَح في مهبِّ الرِّيح، والشَّوارع أعرض والبنايات أفخم، بعضها متوَّج بقِبابٍ
عظيمة من الزُّجاج الملوَّن، وفي الغسق ومع إشعال النَّار أسفلها تتوهَّج القِباب
بالأزرق والأحمر والأخضر والأرجواني.
وعلى الرغم من هذا أصابَ شيء ما في الهواء تيريون بالتَّوتُّر. يعلم أن غرب
(الروين) تكتظُّ أرصفة (ڤولانتيس) بالبحَّارة والرَّقيق والتُّجَّار الذين تخدمهم الخمَّارات
والخانات والمواخير، لكن شرق النَّهر لا يُرى الأغراب القادمون من وراء البحار
إلَّا نادرًا. ليس مرغوبًا في وجودنا هنا.
أول مرَّةٍ مرَّا بفيلٍ لم يستطِع تيريون أن يمنع نفسه من الحملقة. في
صِغره كان في معرض الوحوش في (لانسپورت) فيل، لكنه ماتَ وهو في السَّابعة... وهذا
العملاق الرَّمادي الجسيم يبدو أكبر منه مرَّتين. بعد قليلٍ وجدا نفسيهما وراء
فيلٍ آخَر أصغر حجمًا، أبيض كالعظام القديمة ويجرُّ عربةً منمَّقة الزُّخرف. سألَ
تيريون آسِره: «هل تظلُّ عربة الثِّيران عربة ثيران بلا ثيران؟»، فلمَّا لم يجد
استجابةً لدُعابته عادَ يلوذ بالصَّمت متأمِّلًا كفل الفيل القزم الأبيض الذي
يترجرَج أمامهما.
تعجُّ (ڤولانتيس) بالأفيال القزمة البيضاء، ومع دنوِّهما من (السُّور
الأسود) والقطاعات المزدحمة قُرب (الجسر الطَّويل) رأيا دستةً منها. كما أن الأفيال
الرَّماديَّة الكبيرة ليست نادرةً، بل موجودة هنا وهناك وعلى ظهورها الضَّخمة
الهوادج. في ضوء المساء الخافت تَخرُج عربات الرَّوث التي يجرُّها عبيد نِصف عُراة
مهمَّتهم أن يجرفوا الأكوام السَّاخنة التي تُخلِّفها الأفيال صغيرها وكبيرها، ولأن
أسراب الذُّباب تتبع العربات فوجوه هؤلاء العبيد موشومة بالذُّباب لتمييز عملهم. حِرفة
تَصلُح لأختي. كم ستبدو جميلةً بجاروفٍ في يدها وذُباباتٍ موشومة على وجنتيها الغضَّتين
المتورِّدتين.
عندئذٍ كانت حركتهما قد تباطأت كثيرًا. تَخنُق طريق النَّهر حركة المرور التي
تتدفَّق كلُّها تقريبًا جنوبًا، وقد مضى معها الفارس كجذع شجرةٍ في تيَّار الماء.
رمقَ تيريون الجموع المارَّة ملاحظًا أن تسعةً من كلِّ عشرة على وجوههم علامات الرِّق.
«عبيد كثيرون للغاية... أين يذهبون؟».
- «الرُّهبان الحُمر يُشعِلون نيرانهم اللَّيليَّة عند الغروب. سيتكلَّم
الرَّاهب الأعلى. كنتُ لأتفاداه إن استطعت، ولكن لبلوغ (الجسر الطَّويل) علينا
المرور بالمعبد الأحمر».
بعد ثلاث بنايات انفتحَ الشَّارع أمامهما على ساحةٍ ضخمة تُضيئها المشاعل،
وها هو ذا. ليُنقِذني (السَّبعة)، لا بُدَّ أنه أكبر ثلاث مرَّات من (سِپت
بيلور الكبير). يرتفع (معبد إله الضِّياء) كـ(تل إجون العالي)، صرح من الأعمدة
والسَّلالم والدِّعامات والجسور والقِباب والبروج، جميعها متداخل متشابك كأنها
منحوتة من صخرةٍ عملاقة واحدة. على جُدران المعبد تلتقي مئة درجةٍ من الأحمر والأصفر
والذَّهبي والبُرتقالي وتمتزج، يذوب بعضها في بعضٍ كالسَّحاب عند غروب الشَّمس،
وتلتوي الأبراج الرَّفيعة إلى أعلى كأنها لهب مجمَّد يمتدُّ إلى السَّماء. النَّار
وقد استحالَت إلى حجر. على جانبَي درجات المعبد تشتعل نيران ليليَّة ضخمة،
وبينها بدأ الرَّاهب الأعلى يتكلَّم.
بنيرو. وقفَ الرَّاهب على قمَّة عمودٍ
حجري أحمر يربطه جسر رفيع بشُرفةٍ شامخة يقف فيها الرُّهبان والمُعاونون الأدنى
مرتبةً، وقد ارتدى المُعاونون الأصفر الباهت والبُرتقالي الصَّارخ، والرُّهبان
والرَّاهبات الأحمر.
تكاد السَّاحة أمامهما تكون مصمتةً من فرط الزِّحام. كان كثيرون جدًّا من
المتعبِّدين يُثبِّتون قُصاصاتٍ من القُماش الأحمر إلى أكمامهم أو يربطونها حول
جباههم، وانصرفَت الأعيُن كلُّها إلى الرَّاهب باستثناء أعيُنهما. دمدمَ الفارس
وحصانه يتقدَّم بصعوبةٍ عبر الأعداد الغفيرة: «أفسِحوا الطَّريق، دعونا نمرُّ»،
فأذعنَ الڤولانتينيُّون باستياءٍ تصحبه الهمهمات والنَّظرات الغاضبة.
تردَّد صوت بنيرو العالي بوضوح. الرَّجل طويل ناحل، له وجه مسحوب وبشرة
بيضاء كالحليب، وعلى وجنتيه وذقنه ورأسه الأصلع تصنع وشوم اللَّهب قناعًا أحمر زاهيًا
يُحيط بعينيه ويلتفُّ إلى أسفل محيطًا بشفتيه الرَّفيعتين للغاية. سألَ تيريون: «أهذا
وشم عبوديَّة؟».
أومأَ الفارس برأسه مجيبًا: «المعبد الأحمر يشتريهم وهُم أطفال ويجعل منهم
رُهبانًا أو بائعي هوى أو مُحاربين. انظُر هناك»، وأشارَ إلى الدَّرجات حيث يقف
صفٌّ من الرِّجال في دروعٍ منمَّقة ومعاطف بُرتقاليَّة أمام باب المعبد، يقبضون
على حِرابٍ تتَّخذ رؤوسها شكل اللَّهب المتلوِّي. «اليد النَّاريَّة، جُند إله
الضِّياء المقدَّسون وحُماة المعبد».
فُرسان النَّار. «وكم إصبعًا في هذه
اليد يا تُرى؟».
- «ألف، لا أكثر ولا أقل. كلَّما انطفأَ لهب أحدهم أُشعِلَ لهب جديد في
مكانه».
أشارَ بنيرو بإصبعه إلى القمر بحدَّةٍ ثم كوَّر قبضته ثم بسطَ يديه عن
آخِرهما، وحين تعاظمَت نبرته وثبَ اللَّهب من أصابعه بصوتٍ جيَّاش مباغت جعلَ
الجمهور يشهق، وبعدها بدأ الرَّاهب يَكتُب حروفًا ناريَّةً في الهواء. أبجديَّة
ڤاليريَّة. تعرَّف تيريون كلمتين من عشرة ربما، إحداهما «الهلاك» والثَّانية «الظَّلام».
تفجَّر الصِّياح من المحتشدين، وانتحبَت النِّساء ولوَّح الرِّجال
بقبضاتهم. يُساوِرني شعور سيِّئ. ذكَّر المشهد القزم بيوم أبحرَت مارسلا
إلى (دورن) والشَّغب الذي اندلعَ وهُم يشقُّون طريق العودة إلى (القلعة الحمراء).
تذكَّر تيريون كلام هالدون النِّصف مِايستر عن استغلال الرَّاهب الأحمر، لكن الآن وقد رأى وسمعَ الرَّجل بنفسه وجدَها فكرةً في غاية
السُّوء. بعض الحُلفاء أخطر من الأصدقاء.
كان الرَّاهب يُشير إلى (السُّور الأسود) وراء المعبد ويُلوِّح بيده نحو
شُرفاته حيث تقف مجموعة صغيرة من الحُرَّاس المسلَّحين تُشاهِد، فسألَ تيريون
الفارس: «ماذا يقول؟».
- «إن دنيرس في خطر، إن عين الظَّلام وقعَت عليها وأعوان اللَّيل يُخطِّطون
لدمارها، يُصلِّون لآلهتهم الزَّائفة في معابد الخديعة... يتآمَرون على الخيانة مع
الأجانب الكافرين...».
(((جزء محذوف من المقتطف يضمُّ حرقًا لحدث مهم)))
عندئذٍ كان الفارس قد شقَّ طريقهما قسرًا عبر أغلب الزِّحام في طرف
السَّاحة متجاهلًا اللَّعنات التي انصبَّت عليهما. وقفَ أمامهما رجل، لكن آسِره أمسكَ
مقبض سيفه وسحبَه مظهرًا قدمًا فقط من الفولاذ المجرَّد، ليختفي الرَّجل في لحظةٍ
وينفتح زُقاق أمامهما فجأةً. همزَ الفارس حصانه ليتحرَّك خببًا وتركا الجماهير
وراءهما، وللحظاتٍ سمعَ تيريون صوت بنيرو يخفت شيئًا فشيئًا من ورائهما والهدير
الذي تُفجِّره كلماته كالرَّعد.