چ. ر. ر. تولكين، «سيِّد الخواتم: رفقة الخاتم»
واصَلوا الحركة، ولم يمضِ وقت طويل حتى تكلَّم جيملي،
الذي يملك عينيْن ثاقبتيْن في الظلام، قائلًا: "أعتقدُ أن أمامنا ضوءًا، لكنه
ليس ضوء النهار، فلونه أحمر. تُرى ماذا يكون؟".
تمتم جاندلف: "عجبًا! أهذا ما كانوا يعنونه؟ أن
الأدوار السفلية مشتعلة؟ لكن ليس أمامنا إلَّا المضي قُدمًا".
بعد قليلٍ أصبح الضوء واضحًا، وتمكَّن الجميع من رؤيته
يتوهج ويتذبذب على جدران الممر البعيدة. صارَ بإمكانهم الآن أن يروا طريقهم منحدرًا
أمامهم، وبعده بمسافةٍ قصيرة مدخل مقنطَر منخفض، يأتي منه الضوء المتَّقد، وبدأت
سخونة الهواء تلفحهم بالفعل.
حين وصلوا إلى المدخل تقدَّم جاندلف مشيرًا لهم
بالانتظار، ومع وقوفه بعد الفتحة مباشرةً، رأوا ضوًا أحمر ينعكس على وجهه.
ثم إنه تراجع بسرعة، وقال: "ثمَّة حيلة شيطانية
جديدة معدَّة لاستقبالنا دون شك، لكني أعرفُ أين نحن الآن، فقد بلغنا العُمق
الأول، المستوى الواقع تحت البوابات مباشرةً. هذه قاعة موريا القديمة الثانية،
والبوابات قريبة هناك عند الطرف الشرقي إلى اليسار، على بُعد أقل من رُبع ميل. بعد
ذلك نعبر الجسر ونرتقي درجًا واسعًا، ثم نسير في طريقٍ متسع عبر القاعة الأولى، ثم
إلى الخارج. لكن تعالوا وانظروا!".
اختلسوا النظر، ورأوا أمامهم قاعة أخرى غائرة، أبهى
وأطول كثيرًا من تلك التي ناموا فيها، وأنهم قريبون من طرفها الشرقي. تمتدُّ
القاعة غربًا في الظلام، وفي منتصفها صفٌّ مزدوج من الأعمدة الشاهقة المنحوتة مثل
جذوع أشجارٍ ضخمة، تدعم أغصانها السقف بزخارف من الصخر، قواعدها ملساء سوداء، إلَّا
أن وهجًا أحمر ينعكس داكنًا على جوانبها. بين قاعدتي عمودين ضخمين كان شق كبير قد
انفتح، ومنه جاء الضوء الأحمر الضاري، وبين الحين والآخر تضرب ألسنة اللهب الحافة
وتلتفُّ حول قواعد الأعمدة، فيما ترتعش خيوط الدخان الأسود في الهواء الساخن.
قال جاندلف: "كنا سنعلق هنا لو جئنا من الطريق
الرئيس من القاعات العليا. لنأمل أن النار تفصل بيننا وبين المطاردين. هيا! ليس
هناك وقت نضيِّعه!".
سمعوا بينما يتكلَّم دقات الطبول التي تتبعهم تتردَّد من
جديد: دوم، دوم، دوم! ومن بعيدٍ وراء الظلال، عند طرف القاعة الغربي، سمعوا أصوات
الصياح والأبواق.
دوم، دوم!
وبدا كأن الأعمدة ترتعش واللهب يهتزُّ...
قال جاندلف: "والآن السباق الأخير! إذا كانت الشمس
لا تزال مشرقة في الخارج، فبإمكاننا الهرب. اتبعوني!".
انعطفَ يسارًا، وأسرع عابرًا أرضية القاعة الملساء. كانت
المسافة أكبر مما بدت، وبينما يركضون سمعوا صدى أقدامٍ عديدة تهرع وراءهم، ودوَّت
صيحة خشنة إذ لمحَهم مطاردوهم، وتردَّد وقع رنَّان لاصطدام شيءٍ صُلب بشيءٍ صُلب،
ومرَّ سهم صافرًا في الهواء فوق رأس فرودو مباشرةً.
ضحك بورومير قائلًا: "لم يتوقعوا هذا. النار قطعت
طريقهم. نحن على الجانب الخطأ!".
صاح جاندلف: "انظروا أمامكم! الجسر قريب، لكنه خطِر
وضيِّق".
فجأةً رأى فرودو أمامه هوَّة سوداء، وفي أقصى القاعة
اختفت الأرض في عُمقٍ لا يمكن تخمينه. كان الوصول إلى الباب الخارجي ممكنًا فقط عن
طريق جسرٍ صخري رفيع ليس له حاجز، ويمتدُّ مقوَّسًا مسافة خمسين قدمًا فوق الهوَّة.
كان دفاعًا قديمًا بناه الأقزام ضد أي عدو قد يحتلُّ القاعة الأولى والممرات
الخارجية، وبإمكانهم عبوره في صفٍّ مفرد فقط.
عند الحافة توقف جاندلف وجاء الآخرون متجمِّعين خلفه،
فقال: "تقدَّمنا يا جيملي، وبعدك پيپن ومِري. إلى الأمام مباشرةً، ثم اصعدوا
الدَّرج وراء الباب".
سقطت السهام بينهم، وأصاب أحدها فرودو وارتدَّ عنه، واخترق
آخر قبعة جاندلف وعلق فيها كريشةٍ سوداء. نظر فرودو وراءه، ورأى خلف النار أجسامًا
سوداء تتجمع، وبدا أن هناك مئاتٍ من الأورك يلوِّحون بحرابٍ وسيوفٍ معقوفة تتوهج
حمراء بلون الدم في ضوء النيران.
دوم، دوم! دوَّت دقات الطبول واقتربَت أكثر فأكثر. دوم،
دوم!
دارَ ليجولاس وثبَّت سهمًا في الوتر، على الرغم من بُعد
المسافة بالنسبة إلى قوسه الصغير، إنه ثم سحبَ، لكن يده اهتزت وسقط السهم على
الأرض. أطلق صيحة يأسٍ وخوف، فقد ظهر ترولَّان ضخمان يحملان لوحين كبيرين من
الصخر، وضعاهما أرضًا ليشكِّلا معبرين فوق النار. على أن التروليْن ليسا ما أفعم
قلب الإلف بالهلع، إذ انفتحت فجوة وسط كتائب الأورك، وتلملَموا مبتعدين كأنهم هم
أنفسهم خائفون. شيء ما كان آتيًا من ورائهم، شيء مجهول الماهية، مثل ظلٍّ كبير
يحتوي في داخله هيئة مظلمة، هيئة رجلٍ ربما، لكن أكبر حجمًا، تبدو كأن في داخلها
وأمامها القوة والهلع مجتمعان.
بلغَ الشيء حافة النار، فخفت الضوء كأن سحابة خيَّمت
عليه، ثم اندفع عبر الشق. هدر اللهيب تحيَّة له وتلَّوى حوله، وتصاعد دخان أسود في
الهواء، وتوهج عُرفه المنساب وتأجج من خلفه. بيمينه يمسك سيفًا كلسانٍ من نار،
وبيساره سوطًا شائكًا.
قال ليجولاس مبهوتًا: "يا للسماوات! إنه بالروج!
بالروج آتٍ!".
حدق جيملي بعينين متسعين صائحًا: "لعنة
دورين!".
ثم ترك فأسه تسقط من بين أصابعه، وغطى وجهه بيديه.
وتمتم جاندلف: "بالروج. الآن فهمت"، ثم إنه
ترنَّح، فاستند بقوة إلى عصاه قائلًا: "يا له من حظ عاثر! وأنا متعب
بالفعل!".
اندفع الجسم المظلم الذي تجري فيه النيران نحوهم، وهلَّل
الأورك وتدافعوا إلى المعبرين الصخريَّين، وعندها رفع بورومير بوقه ونفخ فيه،
فدوَّى الصوت المتحدي عاليًا كصيحات مئات الحلوق تحت سقفٍ غائر. جفل الأورك لحظةً
وتوقف الظل الملتهب، ثم تلاشت الأصداء فجأة مثل شعلةٍ أطفأتها ريح خبيثة، وتقدم الخصم
الناري ثانية.
صاح جاندلف مستجمعًا قوته: "إلى الجسر! اهربوا! هذا
عدوٌّ يفوق مقدرة أيٍّ منكم. يجب أن أتمهَّل على الطريق الضيق. اهربوا!".
لم يُبالِ أراجورن وبورومير بأمره، بل ظلَّا حيث هما
جنبًا إلى جنب وراء جاندلف على طرف الجسر البعيد، وتوقف الآخرون عند المدخل في آخر
القاعة، والتفتوا غير قادرين على ترك قائدهم يواجه العدوَّ وحده.
بلغ البالروج الجسر، ووقف جاندلف في المنتصف متكئًا بيده
اليسرى على عصاه، لكن في يده الأخرى تألق سيفه جلامدرينج بنورٍ أبيض باردٍ. توقف
خصمه مجددًا في مواجهته، وامتد الظل من حوله كجناحين عظيمين، ثم رفع السوط الذي تعوي أشواكه وتُطقطق، وخرجت النار من طاقتي أنفه، لكن جاندلف وقف ثابتًا وقال: "لا
يُمكنك المرور".
تسمَّر الأورك وساد صمت ثقيل، ثم قال جاندلف: "أنا
خادم النار السرِّية، حاملا لهب آنور. لا يُمكنك المرور. لن تفيدك النار المظلمة
يا لهب أودون. عُد إلى الظلال! لا يُمكنك المرور".
لم يُجبه البالروج، وبدا أن الأتون في داخله يخبو، لكن
الظلام امتدَّ وتشعَّب. تقدم ببطءٍ إلى الجسر، وفجأةً رفع نفسه إلى ارتفاعٍ شاهق، وانبسطَ
جناحاه من الحائط إلى الحائط، ومع ذلك ظلَّ جاندلف يتألق جليًّا في العتمة، وإن
بدا صغيرًا وحيدا تمامًا، عجوزًا محني الظهر كشجرةٍ ذابلة في مستهلِّ عاصفة.
اندفع من قلب الظل سيف أحمر متوهج، والتمعَ جلامدرينج
بالأبيض ردًّا عليه.
تردَّد رنين الارتطام وطعنة النار البيضاء، وسقط
البالروج إلى الخلف، وطار سيفه متفتِّتًا إلى شظايا منصهرة. تمايل الساحر على
الجسر، وتقهقرَ إلى الخلف خُطوةً، ثم ثبت في مكانه مجددًا وقال بصرامة: "لا
يُمكنك المرور!".
اندفع البالروج واثبًا بكلِّ قوته إلى الجسر، والتف سوطه
وشق الهواء صافرًا.
صاح أراجورن راكضًا عبر الجسر: "لن يمكنه الصمود
وحده! إلينديل! أنا معك يا جاندلف!".
واندفع بورومير وراءه هاتفًا: "جوندور!".
في هذه اللحظة رفع جاندلف عصاه وضرب الجسر أمامه بقوة
صائحًا بصوتٍ هادر، فتحطمت العصا وسقطت من يده، وارتفعت موجة من اللهب الأبيض تخطف
الأبصار. تصدَّع الجسر وتحطَّم عند قدمي البالروج بالضبط، وسقطت الصخور التي يقف
عليها في الهاوية، وظلَّ ما تبقَّى منها يهتزُّ بعنفٍ كلسانٍ حجري ممتد في الفراغ.
سقط البالروج مطلقًا صرخة رهيبة، وانغمس ظله في الظلام
واختفى، لكن على حين غرَّة، وبينما يسقط، لوَّح البالروج بسوطه، وضربت أشواكه
ركبتي الساحر والتفَّت حولهما ساحبة إياه إلى الشفير.
ترنَّح جاندلف وسقط محاولًا التعلق بالصخور بلا جدوى،
وانزلق إلى الهاوية صائحًا إذ غاب عن أنظارهم: "اهربوا أيها الحمقى!".