مقتطف من «رقصة مع التَّنانين»
الكتاب الخامس من مقتطف من «أغنيَّة الجليد والنار»
ترجمة هشام فهمي
نهاية العام، عن دار التنوير
- «ستارك كان
خائنًا لاقى نهاية خائن».
قال
سلمي: «جلالة الملكة، إدارد ستارك لعبَ دورًا في سقوط أبيكِ، لكنه لم يكنَّ لكِ
أيَّ ضغائن. عندما أبلغَنا الخصيُّ ڤارس بكونكِ حاملًا أرادَ روبرت قتلكِ، لكن
اللورد ستارك عارضَه، وبدلًا من تأييده اغتيال الأطفال قال لروبرت أن يجد لنفسه
يدًا آخَر».
-
«هل نسيت الأميرة ريينس والأمير إجون؟».
-
«إطلاقًا. كان هذا عمل لانستر يا صاحِبة الجلالة».
-
«لانستر أو ستارك، ما الفرق؟ اعتادَ ڤسيرس أن يُسمِّيهم كلاب الغاصِب. إذا هاجمَ
قطيع من كلاب الصَّيد طفلًا فهل يهمُّ أيُّها يُمزَّق عُنقه؟ كلُّ كلاب القطيع
مذنبة. الذَّنب...». احتبسَت الكلمة في حَلقها، وفكَّرت: هازيا، وفجأةً
سمعَت نفسها تقول بصوتٍ خفيض كهمسة طفلة: «يجب أن أرى الجُبَّ. خُذني إلى هناك
أيها الفارس».
لاحَت
لمحة من الاعتراض على وجه العجوز، ولكن ليس هو من يُراجِع مليكته، وهكذا قال: «كما
تأمرين».
سلالم
الخدم أسرع طريقٍ إلى أسفل. ليست فخمةً، لكنها منحدرة ومستقيمة وضيِّقة ومحجوبة
داخل الجُدران. جلبَ السير باريستان مصباحًا يُضيء الطَّريق لئلَّا تَسقُط، ونزلا
والقرميد المطلي بعشرين لونًا يُحيط بهما من كثب، قبل أن يستحيل إلى الرَّمادي
والأسود عندما يتجاوَزه الضَّوء. ثلاث مرَّاتٍ مرَّا بحَرسٍ من المُطهَّرين
الواقفين بثباتٍ يجعلهم كأنهم منحوتون من حجر، والصوَّت الوحيد وقع أقدامهما
الخافت على الدَّرجات.
في
مستواه الأرضي هرم (ميرين) الأكبر مكان صامت مليء بالغُبار والظِّلال، جُدرانه
الخارجيَّة تَبلُغ الثَّلاثين قدمًا سُمكًا، وداخلها تتردَّد أصداء الأصوات على
القناطر عديدة الألوان وفي الاسطبلات ومَرابط الخيول والمخازن. مرَّا من تحت ثلاث
قناطر هائلة وقطعا ممرًّا منحدرًا مضاءً بالمشاعل إلى الأقبية أسفل الهرم،
وتجاوَزا خزَّانات الماء والزَّنازين وحُجرات التَّعذيب التي قاسى فيها العبيد
الجَلد والسَّلخ والحرق بالمكاوي الحامية، وأخيرًا بلغا بابًا ضخمًا مصراعاه من
الحديد ومفصلاته صدئة يَحرُسه المُطهَّرون.
على
إثر أمرها أخرجَ أحدهم مفتاحًا حديديًّا. صرخَت مفصلات الباب إذ انفتحَ، وخطَت
دنيرس تارجاريَن إلى قلب الظَّلام السَّاخن وتوقَّفت على حافة جُبٍّ عميق، وعلى
بُعد أربعين قدمًا بالأسفل رفعَ تنِّيناها رأسيهما وأربع أعيُنٍ متَّقدة تتخلَّل
نارهما الظِّلال، اثنتين من الذَّهب المصهور واثنتين من البرونز.
أمسكَها
السير باريستان من ذراعها قائلًا: «لا تقتربي أكثر».
-
«أتظنُّ أنهما قد يُؤذِيانني؟».
-
«لا أدري يا جلالة الملكة، لكنني أوثرُ ألَّا أخاطر بكِ لأعرف الإجابة».
حين
زأرَ ريجال أحالَ رُمح من النَّار الصَّفراء الظَّلام إلى نهارٍ لنِصف لحظة،
ولعقَت ألسنة اللَّهب الجُدران وشعرَت داني بحرارتها على وجهها كأنها أتون يلفح.
عبر الجُبِّ انبسطَ جناحا ڤسيريون محرِّكيْن الهواء السَّاكن، وحاولَ أن يطير
إليها لكن السِّلسلة انشدَّت عن آخِرها إذ ارتفعَ وجعلَته يهوي على بطنه. تُقيِّد
قدمَي التنِّين حلقات كبيرة بحجم قبضة رجلٍ إلى الأرض، والطَّوق الحديدي المحيط
بعُنقه مثبَّت إلى الحائط ورائه. ريجال أيضًا مقيَّد بسلاسل شبيهة، وفي ضوء مصباح
سلمي تلتمع حراشفه كاليَشب. من بين أسنانه يتصاعَد الدُّخان، وعند قدميه على الأرض
عظام مبعثرة، مكسَّرة ومهشَّمة ومتفحِّمة، والهواء ساخن لدرجةٍ مزعجة وعابق برائحة
الكبريت واللَّحم المحترق.
قالت
داني: «حجمهما أكبر»، فتردَّد صدى صوتها على الحوائط الحجريَّة المسفوعة، وشعرَت
بقطرةٍ من العَرق تسيل من على جبينها وتَسقُط على ثديها. «أصحيحٌ أن التَّنانين لا
تكفُّ عن النُّمو أبدًا؟».
-
«إذا تمتَّعت بالطَّعام الكافي ومساحةٍ للنُّمو، لكن وهي مقيَّدة هنا...».
في
السَّابق استخدمَ الأسياد العظام الجُبَّ كسجن، مساحته واسعة تكفي لاحتواء خمسمئة
سجين... وتكفي تنِّينيْن وتزيد. لكن إلى متى؟ ماذا سيَحدُث عندما يَكبُران على
الجُب؟ هل سينقلب أحدهما على الآخَر بناره ومخالبه؟ هل سيَضعُفان ويَهزُلان
وتَذبُل جوانبهما وتنكمش أجنحتهما؟ هل ستنطفئ نيرانهما قبل النِّهاية؟
ما الأُم التي تَترُك طفليها يتعفَّنان في
الظَّلام؟
قالت
داني لنفسها: إذا نظرتُ إلى الوراء فأنا هالكة... لكن كيف يُمكنها ألَّا
تَنظُر وراءها؟ كان عليَّ أن أتوقَّع هذا. هل كنتُ عمياء أم أغلقتُ عينَي
بإرادتي كي لا أرى ثَمن القوَّة؟
حكى
لها ڤسيرس الحكايات كلَّها في طفولتها، فلكم أحبَّ الكلام عن التَّنانين، وهكذا
علمَت كيف سقطَت (هارنهال)، وعلمَت بحقل النِّيران ورقصة التَّنانين، وأن أحد
أسلافها -إجون الثَّالث- رأى تنِّين خاله يلتهم أمَّه حيَّةً، كما أن هناك أغاني
لا تُحصى عن قُرى وممالك عاشَت في رُعبٍ من التَّنانين إلى أن جاءَ قاتِل تنانين
شُجاع يُنقِذها. في (أستاپور) ذابَت عينا النخَّاس، وفي الطَّريق إلى (يونڬاي)،
حينما ألقى داريو رأسَي سالور الأصلع وپرندال نا غِزن عند قدميها، صنعَ أطفالها
منهما وليمةً. لا تخشى التَّنانين البَشر، والتنِّين الكبير كفايةً لالتهام خروفٍ
يستطيع أن يلتهم طفلةً بالبساطة ذاتها.
كان
اسمها هازيا، وكانت في الرَّابعة. ما لم يكن أبوها قد كذبَ. ربما كذبَ. لا
أحدَ إلَّاه رأى التنِّين، ودليله كان بعض العظام المحروقة، لكن العظام المحروقة
لا تُثبِت شيئًا. ربما قتلَ الصَّغيرة بنفسه ثم أحرقَ جثَّتها. لن يكون أول أبٍ
يتخلَّص من ابنةٍ لا يُريدها كما زعمَ الرَّأس الحليق. ربما قتلَها أبناء
الهارپي وجعلوا الأمر يبدو كأن تنِّينًا فعلَها لجعل المدينة تكرهني. تُريد
داني أن تُصدِّق ذلك... لكن إن كانت تلك الحقيقة فلِمَ انتظرَ أبو هازيا حتى خلَت
القاعة تقريبًا ليتقدَّم؟ لو كان هدفه أن يُلهِب مشاعر الميرينيزيِّين ضدها لحكى
حكايته والقاعة ملأى بالآذان الصَّاغية.
حثَّها
الرَّأس الحليق على قتل الرَّجل، وقال: «أو اقطعي لسانه على الأقل. من شأن كذبة
هذا الرَّجل أن تُدمِّرنا جميعًا يا صاحِبة السُّمو»، إلَّا أن داني اختارَت أن
تدفع ثَمن الدَّم بدلًا من ذلك. لم يكن بإمكان أحدٍ أن يُخبِرها بثَمن ابنة،
فقدَّرته بمئة ضِعف ثَمن حَمل، وقالت للأب: «كنتُ لأعيد هازيا إليك لو استطعتُ،
لكن بعض الأشياء لا تقدر عليه الملكات أنفُسهن. ستُدفَن عظامها في (معبد ذوات
النِّعم)، وستشتعل مئة شمعة ليل نهار في ذكراها. عُد إليَّ كلَّ سنةٍ في يوم
ميلادها ولن يعوز أطفالك الآخَرون شيء... لكن يجب ألَّا تَخرُج هذه الحكاية من فمك
ثانيةً أبدًا».
قال
الأب الثَّكلان: «سيسأل النَّاس، سيسألونني أين هازيا وكيف ماتَت».
ردَّ
رزناك مو رزناك بإصرار: «ماتَت بلدغة ثُعبان، اختطفَها ذئب مفترس، أخذَها مرض
مفاجئ. قُل لهم ما تشاء، لكن لا تَذكُر التَّنانين».
خدشَت
مخالب ڤسيريون الأحجار وصلصلَت السِّلسلة الضَّخمة إذ حاولَ الطَّيران إليها
ثانيةً، ولمَّا فشلَ أطلقَ زئيرًا ولوى رأسه إلى الوراء قدر استطاعته وبصقَ
اللَّهب الذَّهبي على الحائط ورائه. كم من الوقت قبل أن تستعرَّ ناره بما يكفي
لفلق الحجر وإذابة الحديد؟
منذ
وقتٍ ليس ببعيد كان يركب على كتفها بذيلٍ ملفوف حول ذراعها، منذ وقتٍ ليس ببعيد
كانت تُطعِمه لُقيمات اللَّحم المتفحِّم من يدها. هو أول من قيَّدته السَّلاسل،
عندما قادَته دنيرس إلى الجُبِّ بنفسها وحبسَته بالدَّاخل مع عدَّة ثيران، وبعد أن
التهمَها أصابَه النُّعاس، وبينما غابَ في النَّوم قيَّدوه.
غير
أن ريجال كان أصعب. ربما سمعَ ثورة أخيه في غياهب الجُبِّ على الرغم من الجُدران
الحجر والقرميد الفاصلة بينهما. في النِّهاية غطُّوه بشبكةٍ من السَّلاسل الحديد
الثَّقيلة وهو مستلقٍ في شمس شُرفتها، وقد قاومَ بشراسةٍ بالغة حتى إنهم استغرَقوا
ثلاثة أيامٍ كاملة للنُّزول به على سلالم الخدم وهو يتلوَّى ويعضُّ الهواء، وأسفرَ
الصِّراع عن احتراق ستَّة رجال.
ودروجون...
الظِّل
المجنَّح كما دعاه الأب الثَّكلان. إنه أكبر الثَّلاثة حجمًا وأشرسهم وأضراهم،
حراشفه سوداء كالصَّريم وعيناه حُفرتان من نار.
يصطاد
دروجون بعيدًا، لكن حين يشبع يحبُّ الاستلقاء في الشَّمس على قمَّة (الهرم الأكبر)
حيث كانت هارپي (ميرين) تقف من قبل. ثلاث مرَّاتٍ حاوَلوا أخذه هناك، وثلاث
مرَّاتٍ أخفَقوا. أربعون من أشجع رجالها خاطَروا بأرواحهم في محاولة القبض عليه،
وأصيبوا كلُّهم تقريبًا بحروقٍ وماتَ منهم أربعة. آخِر مرَّةٍ رأت دروجون كانت عند
الغروب يوم المحاولة الثَّالثة، وكان التنِّين الأسود محلِّقًا شمالًا عبر
(السڬاهازاذان) نحو عُشب (بحر الدوثراكي) الطَّويل، ومنذ ذلك الحين لم يرجع.
وقالت
دنيرس في أعماقها: أُم التَّنانين. أُم الوحوش. ماذا أطلقتُ على العالم؟ ملكة
أنا، لكن عرشي من عظمٍ محروق ومن تحته رمال متحرِّكة. في غياب التَّنانين ما
أملها في السَّيطرة على (ميرين)، ناهيها باسترداد (وستروس)؟ أنا دم التنِّين.
إذا كانوا وحوشًا، فأنا أيضًا وحش.